نرحب بضيفنا المساهم الأستاذ عقيل هاشم عبود
طبقا لبعض المعلومات المسربة من دائرة القرار السياسي العراقي في بغداد, فأن اجتماعات سرية قد جرت بين مسؤولين رفيعي المستوى من ايران والمملكة العربية السعودية, الهدف منها تقليل حدة التوتر بين الطرفين, ونزع فتيل أزمة سياسية مزمنة بين الطرفين كان لأستمرارها الاثر الكبير في عدم استقرار المنطقة برمتها. ويبدو ان هذه الاجتماعات ربما جاءت بتشجيع من الحكومة العراقية والذي قام رئيس وزراءها مصطفى الكاظمي بزيارة لكل من البلدين في فترة سابقة من السنة الحالية, او ربما جاءت نتيجة قناعة الطرفين بأن الظرف السياسي العالمي والاقليمي الراهن يدعو للعودة لطاولة المفاوضات والبحث عن مخرج مرضي للطرفين فيما يتصل بموقفيهما من جملة الاحداث المهمة والجارية في المنطقة
لم تكن العلاقات بين ايران والسعودية علاقات يمكن وصفها بأنها علاقات طبيعية بين قوتين فاعلتين في الشرق الاوسط, منذ قيام الثورة الايرانية عام 1979 بقيادة السيد اية الله روح الله الخميني (1902-1989), والتي اطاحت بشاه ايران الاخير محمد رضا بهلوي, وحتى يومنا هذا. وقد رأت العائلة المالكة في المملكة العربية السعودية في هذه الثورة تهديدا كبيرا لموقعها القيادي للاغلبية المسلمة في العالمين العربي والاسلامي, باعتبارها الراعية الاساس للارث الاسلامي والوجود الاسلامي المتمثل بوجود بيت الله الحرام او الكعبة المشرفة وقبر الرسول ومسجده الكريم في المدينة المنورة, وقد تمثل هذا التهديد بالنسبة للملكة العربية السعودية في ظهور تيار اسلامي راديكالي شيعي, تشكلت ابعاده ووضحت ايديولوجته الدينية والسياسية في
اعقاب نجاح الثورة الاسلامية الايرانية, والتي اتخذت من قضايا الصراع الايديولوجي مع الغرب بصورة عامة والولايات المتحدة الامريكية بصورة خاصة اهداف مشروعة لمقاومتها, ووضعت مخططا للتوسع القائم في المقابل على ايديولوجية دينية معقدة في المنطقة العربية وفي العالم الاسلامي
ومن النافل قوله, بأن القيادة الايرانية الجديدة لم تخفي امتعاضها من بعض مصادر القرار العربي, كالسعودية بوجه التحديد وسلوكيات هذه الممكلة, في الجانب السياسية على وجه الخصوص في المنطقة وعلاقاتها مع الغرب والولايات المتحدة بوجه التحديد, الامر الذي لم يولد الانطباع الايجابي لدى صاحب القرار في الرياض من جملة العواقب الوخيمة المتوقع حدوثها في المنطقة, اذا ما استتب الامر لاية الله الخميني, ودولته الجديدة
لكن الغريب في الامر, ان طيلة فترة الصراع بين الطرفين (ايران والعربية السعودية), لم تحدث اي مواجهة مباشرة بينهما, والحديث دائما هنا عن مواجهة عسكرية, ولكن المؤكد ان الدولتين قررتا ان يكون حل النزاع بينهما على اراضي دول اخرى, وقد نجحت العربية السعودية ايما نجاح في هذا الامر, كما نجحت فيما بعد ايران في خوض غمار صراعاتها السياسية المضنية والمعقدة مع الممكلة في اراضي دول اخرى وعبر منظمات ومجموعات جهادية تتخذ من ولاية الفقيه مرجعا روحيا وسياسيا لها, كما هو الحال في العراق, اليمن, لبنان وسورية.
أتفق الكثير من الباحثين في الشأن العربي والاقليمي من ان الخدمة التي قدمها الرئيس العراقي السابق صدام حسين (1937-2006) للعربية السعودية في العام 1980 لا تقدر بثمن, فقد اعلن صدام حسين والذي اعدم في العام 2006, الحرب على ايران بعد فترة قصيرة جدا من عمر الثورة الايرانية, وبعد تأزم ملحوظ للعلاقات بين الطرفين أبان تسنم أية الله الخميني أدارة الامور في ايران. استمرت الحرب لمدة ثمان سنوات (1980-1988), راح ضحيتها ما يقدر من المليون ونصف المليون من القتلى بين الطرفين بالاضافة الى مئات الالاف من الجرحى والمعاقين, وقدرت الخسائر المادية للطرفين بمئات الميارات من الدولارات.
كان للدور الذي لعبته دول الخليج, وعلى رأسها المملكة العربية السعودية والكويت, الاثر الكبير في مساعدة نظام صدام حسين على الخروج منها غير مهزوما من الناحية الصورية,
لكن علامات الهزيمة كانت واضحة المعالم لكل المتابعين والمحللين السياسيين والعسكريين والاقتصاديين, فلم يستطع نظام صدام حسين تحمل تبعات هذه الحرب وخسائرها المادية والسياسية, فارتكب خطأ فادحا سيعود عليه بالوبال طيلة فترة التسعينيات من القرن الماضي, والتي انتهت بأحتلال العراق في العام 2003.
يدخل العراق الكويت في اعقاب تلك الحرب الطاحنة, فيجتمع العالم كله ضد القيادة العراقية, وتقود الولايات المتحدة الامريكية وبريطانيا وغيرها من دول العالم حملة عسكرية فتحرر الكويت ويهزم العراق شر هزيمة, بعد حملة قصف جوي لم يشهد لها التاريخ الحديث اي مثيل. علينا ان نشير هنا, بان العراق وطيلة فترة الحرب مع ايران, كان يحسب ضمن محور سياسي تشكل بالضد من محور اخر تقوده ايران, سورية, الجزائر وليبيا. وصراع المحاور هذا كان القشة التي قصمت ظهر العراق في فترة حكم صدام حسين. والواضح للمتتبعين, ان طبيعة النظام العراقي السابق التي تأرجحت بين تبني شعارات القومية العربية, وشعارات زائفة اخرى كانت رائجة في تلك الحقبة حتمت عليه الدخول في صراع المحاور والزعامة والريادة في العالم العربي على اقل تقدير, الامر الذي قاده الى نهايته المحتومة.
تسوء العلاقات العراقية العربية ويختفي شبح صدام حسين وشعارات نظامه القومية, ويدخل العالم العربي في حالة من الضياع والانقسام جاءت في اعقاب حرب تحرير الكويت, لكن يبقى اصرار السعودية ودول خليجية وعربية اخرى على تركيع العراق, فمهدت سياسة العزل والعقوبات القاسية على العراق الطريق لسقوط نظام حزب البعث وصدام حسين في ما اطلق عليه فيما بعد بعملية تحرير العراق في العام 2003 والتي قادتها ايضا الولايات المتحدة الامريكية وبريطانيا بالاضافة الى دول اخرى.
لم تكن فترة (التسعينات), فترة يمكن أعتبارها مريحة بالنسبة لكل من ايران والمملكة العربية السعودية, على الرغم من احتفاظ الطرفين بعلاقات شبه مستقرة بينهما. لكن هذه العلاقات لم تفصح عن رغبة واضحة بين الطرفين في الذهاب الى ابعد نقطة ممكنة في العلاقة بينهما. لكن سرعان ما تعود العلاقات بين الطرفين الى المربع الاول, والسبب هو احتلال العراق, ووقوف ايران في محور معارض للحرب واحتلال العراق, ووقوف السعودية الى جانب مبدأ الحرب واحتلال العراق.
كانت الحرب كارثية بنتائجها على العراق وعلى المنطقة برمتها, فبدء عهد جديد من التحالفات وصراع المحاور, وهذه المرة على الارض العراقية, بعد فشل القيادة الامريكية في الحفاظ على استقرار العراق بعد احتلاله, فقد انعدمت الرؤية الواضحة لدى صاحب القرار الامريكي عما يراد من العراق وما يمكن فعله للوصول الى الغايات المنشودة من الاحتلال؟
نشأت حالة من الفوضى وافول للدولة العراقية ورمزيتها المتمثلة في مؤسساتها العسكرية والامنية, مما جعل العراق ساحة مفتوحة لقوى عربية واقليمية ودولية, وكل حسب ما تقتضيه مصالحه في العراق, فوقع ما لم يكن في الحسبان, حرب أهلية بين فرقاء البلد الواحد. كان للسعودية وايران التواجد الكبير في العراق, وتباين هذا التواجد على الاصعدة السياسية والاجتماعية والدينية. وقد غذى هذا التواجد ومن خلال توفر المال وعناصر القوة واجهزة اعلامية ضخمة جدا البعد الطائفي بين العراقيين, فحدث شرخ كبير في النسيج الاجتماعي العراقي, كما كان عاملا اساسيا في تحجيم البناء السياسي الجديد في العراق والذي جاء في اعقاب الاحتلال.
لا يزال هذا النظام السياسي يعاني كثيرا, حتى بعد مرور فترة زمنية طويلة نسبيا على انشاءه, لان السياسي العراقي وصانع القرار السياسي في بغداد لازال يدور في فلك المحاور السياسية المتعددة في المنطقة, وهو امر لم يعد بأي نفع للعراق كدولة وللعراقيين كشعب طامح للتغيير. على صانع القرار في بغداد ان يدرك ان دول الجوار ومواقفها المختلفة من العراق والتي خضعت لرهانات التموضع في هذا المعسكر او ذاك ومحاولة جر العراق للعبة المحاور كانت وبالا على العراق والعراقيين.
وهنا يمكن الاشارة, الا ان الانتخابات القادمة, ستكون مفصلية في حياة العراقيين, من حيث نوعية التفكير السائد لدى الغالبية العظمى منهم, بضرورة احداث تغيير في نمط السلوك لدى النخب الدينية والسياسية على حد سواء, وان الدعوة الى عراق مستقل من الفاعل الاجنبي مهما كان نوعه, ومهما كان قربه او بعده, وعراق مستقر, أمن, ناشد لوسائل التطور والتفاعل مع العالم برمته, هو ضرورة ملحة لكل العراقيين.
وهذا الامر لا يتم الا من خلال ابعاد العراق عن صراع المحاور العربية والاقليمية والدولية. لا يمكن للعراق ان يكون طرفا في اي نزاع او تحالف يعمل على تمزيق المنطقة بصورة
اكبر, ولا يمكن للعراق ان يكون طرفا في معارك خاسرة حتى قبل ان تبدأ, كما لا يمكن للعراق ان يكون طرفا في معارك صفتها الاساسية دينية او طائفية, فالعراق بلد تتعدد فيه الاديان والطوائف والقوميات, وقوته ان اريد له ان يكون قويا, تبنع من هذا التعدد.
اذا كان هناك درسا لابد للعراقيين من تعلمه, فهو يكمن في مسألة أخذ العبر من الماضي وما حدث فيه من أحداث جسام تركت بصماتها على الساحة العراقية وعلى العراقيين. والسؤال هنا, ما الذي يمكن ان تقدمه سياسة الابتعاد عن المحاور للعراق وللعراقيين؟
أن الجواب فيه أوجه متعددة, لكنني سوف اختزلها بما أراه حيويا لوجود الدولة العراقية الجديدة وللمجتمع العراقي الجديد الطامح للاستقرار والتطور والامان.
في الجانب السياسي
سوف تساعد سياسة الابتعاد عن صراع المحاور في تحرير العراق كدولة ذات سيادة من حسابات الربح والخسارة في مجال السياسة والتي تترتب على مسألة البعد من هذا الطرف أو ذاك, القرب من السعودية وبعض دول الخليج الاخرى, والبعد عن ايران, والعكس صحيح. القرب من الولايات المتحدة الامريكية كدولة راعية للنظام الديمقراطي الذي اسسته في العراق بكل مساوئه, والابتعاد عن ايران والسعودية كفاعلين اساسيين لهما تأثيراتهم الواضحة في النسيج الاجتماعي العراقي (شيعة وسنة). مسألة التقارب من الجميع لها أهمية قصوى في الحفاظ على البناء السياسي العراقي الجديد, فالعراق الجديد هو دولة مؤسسات, وهذه المؤسسات يجب ان تكون هي الفاعلة في صياغة السياسة العراقية الخارجية, والتي احدى اهم اهدافها, هي ايجاد علاقات سياسية متوازنة بين العراق وكافة جيرانه قائمة على اسس الاحترام المتبادل وعدم التدخل في الشؤون الداخلية لاي طرف من الاطراف.
لقد كان الهدف من اقحام العراق في صراع المحاور, هو اضعاف النظام السياسي الجديد في العراق, وخلق بيئة غير متجانسة تعمل على تفريغ هذا النظام من اي محتوى, وجعله نظاما هشا معتمدا في وجوده على الاخرين. ان الاحداث التي رافقت بناء الدولة العراقية الجديدة خير مثال على ذلك.
في الجانب الاقتصادي
يحتاج العراق جميع جيرانه لأخراجه من المعظلة الاقتصادية التي يعاني منها, وعليه فحاجة العراق لايران حيوية كما هي حاجته للسعودية, ولقطر, وللامارات, ولتركيا, وللاردن, وللولايات المتحدة الامريكية وبريطانيا وبقية دول العالم الاخرى, ولكي يكون العراق دولة حرة في بعدها السياسي, فالحاجة الى نظام اقتصادي متعدد في استثماراته العربية والاقليمية والدولية تصبح مسألة ملحة للغاية. يمثل العراق حاليا سوق خصبة للاستثمار الدولي بكافة ابعاده, وان اي محاولة لجرالعراق الى سياسة الاصطفاف العربي او الاقليمي او الدولي, لا تساعد في عملية التحول الاقتصادي المطلوب لاخراج العراق من محنته الاقتصادية, وقد اثبتت السنوات الثماني عشرة السابقة مدى خطورة انزلاق العراق في صراع المحاور على الوضع الاقتصادي في العراق.
ففي دولة حيث تكون فيها نسب البطالة مرتفعة بصورة مخيفة, وحيث نسبة الشباب فيه تتجاوز % 75 بالمائة من اجمالي السكان, تصبح الحاجة الى اعادة صياغة اسس الاقتصاد العراقي الجديد, وفتح مجالات الاستثمار على مصراعيه امام المستثمر العربي والاقليمي والعالمي ضرورة ملحة لاستيعاب الاعداد الهائلة من الخريجين والايدي العاملة وفي مختلف الاختصاصات.
في الجانب الاجتماعي
لقد ترك صراع الارادات العربية والاقليمية على الاراضي العراقية جرحا كبيرا في النسيج الاجتماعي العراقي صعب له ان يندمل. فقد استخدمت غالبية القوى العربية والاقليمية
المكونات العراقية المتنوعة في انتمائاتها وتوجهاتها السياسية والعرقية والقومية لخدمة مصالحها, وقد نجحت هذه القوى الى حد كبير في تحييد المجتمع العراقي وابعاده عن ماهو مطلوب منه. وابعد من ذلك, فقد نجحت هذه القوى, في اشعال فتيل حرب اهلية كان بامكانها ان تاتي على كل شيء, من خلال تفعيل العامل الطائفي بين مكونات المجتمع العراقي, لكن قوة وصلابة النسيج المجتمعي العراقي حال دون ذلك, ولكن الامر لم يخلو من خسائر باهضة. بالتأكيد كان للفاعل الداخلي المختلف والمنقسم والمنتشي بسلطة سياسية ومادية وعشائرية لا يستهان بها, دورا واضحا في ما انحدرت اليه الامور في العراق, وهو امر يجب ان لا يتكرر, والانتخابات القادمة والمزمع اقامتها في الشهر العاشر من السنة الحالية ورغبة الناخب العراقي بضرورة تغيير كل المعادلات لا سيما السياسية منها من اجل خلق عراق جديد يسع الجميع, كفيل بعدم تكرارالتجربة القاسية.
اخيرا, يجب على العراق ان يختار بين كونه بلد حرا ومستقرا ومتطورا وامنا, وبين ان يكون تابعا ضعيفا وهشا تتلاطمه رياح الاصطفاف بين هذا المعسكر او ذاك, بين بلد يطمح ان يكون فاعلا في عالم جديد, وبين بلد يعيش على هامش عالم متسارع في تطوره وتحضره, بين بلد مستوفي لشروط وجوده, قادرا على حماية ارضه وشعبه, وبين بلد ضعيف متهالك يحتاج الاخر في وجوده وفي حماية ارضه وشعبه.
اشياء لا زلنا بأنتظار تحققها
No comments:
Post a Comment