Guest contributor, Dr. Faris Kamal Nadhmi, is Professor of Social Psychology, Salahaddin University, Arbil, Kurdish Regional Government, Iraq
جدلية أفول الأسلمة وبزوغ الوطنياتية في العراق
ماذا
حققت الحركة الاحتجاجية السلمية حتى الآن؟
وما
مساراتها القادمة المحتملة؟
ما يحدث في بغداد ووسط البلاد وجنوبها منذ منتصف شهر تموز 2015 وحتى اليوم من انضباط سلوكي وجمالية تعبيرية أبداها العراقيون في احتجاجاتهم السلمية ضد فساد السلطة وطائفيتها، يعدّ معجزة أخلاقية بالمقارنة مع التهتك الضميري لسلطة الدين السياسي. وهو ما يمكن توصيفه بأنه خروج متريث وتدريجي من زنزانة الطائفية العقيمة الخانقة إلى الفضاء الوطني المدني اللانهائي. فالوطن ليس فكرة رومانسية عابرة بل ضرورة تطورية آدمية ملحّة!
التيار المدني الوطنياتي هو
الاكثرية الصامتة التي بدأت تنطق. أما التيار
الإسلاموي الطائفاني فهو الأقلية الناطقة التي بدأت تفقد الصوت
!هذا
ليس تفكيراً رغبياً بالتمني، بل رصداً لتقلبات الهوية الاجتماعية وجدلية
دينامياتها الكامنة والمتراكمة والواعدة. يقول
كارل ماركس: ((إن الناس هم الذين يصنعون تاريخهم الخاص؛ إلا
أنهم لا يفعلون ذلك عشوائياً ضمن شروط من اختيارهم، بل ضمن شروط معطاة مسبقاً وموروثة من
الماضي((.
وفي الوقت نفسه، فإن النزعة اليساروية الاجتماعية الكامنة في الشخصية العراقية، العابرة للطبقة والدين والعرق، باتت تؤسس اليوم فعلها الأول في خارطة المستقبل السياسي. فالفرد العراقي راديكالي بتكوينه النفسي، وإذا ثُلم كبرياءه الوطني لمدة طويلة، علمانياً كان أم إسلامياً، تفجرت يساريته الإصلاحية! لكن النخب المتأسلمة الحاكمة لا تعرف كل ذلك لأنها بلا تراث وطنياتي، وبلا جذور نابتة في ثقافة المجتمع، ولأنها سلطة مصطنعة لم تنتج عن المسارات السوسيوسياسية التي نشأت منها فكرة العراق !
وقبل التطرق لديناميات الظاهرة الاحتجاجية الحالية، لا بد من التوكيد أولاً أن النص الحالي يتبنى الفرضية القائلة أن سلطة الأسلمة السياسية الحالية في العراق تعدّ بنية مغلقة غير قابلة للإصلاح الذاتي من داخلها، وهي تفترس نفسها بنفسها، دون أن تتمكن من الاستفادة والتعلم من أي تجارب سياسية أو آليات ديمقراطية مرّت بها، إذ يعزى ذلك إلى نزعتي الاستبداد والفساد اللتين تغلغلتا فيها حد التجذر النهائي. ولذلك فإن تحليلنا سينحو أكثر باتجاه استكشاف المسارات والمآلات النفسية والاجتماعية الواعدة التي فتحتها هذه الاحتجاجات على مستوى استعادة الفرد العراقي لدوره تدريجياً في المشاركة السياسية الفاعلة لتأسيس دولة المواطنة الرشيدة التي ما
برحت أجيال من العراقيين تحلم بها على مر التاريخ المعاصر لهذه البلاد.
كما يتبنى هذا النص فكرة أن اليقظة العراقية الحالية لا يجدر أن يُنتظر منها أن تنجح في إقناع نظام متهريء وعاجز بتقديم ما هو مفتقد إليه كلياً ونهائياً، بل يرتجى منها أن تؤسس سياسياً وسيكولوجياً لمرحلة ما بعد هذا النظام.
على الرغم من
اقتصار هذه الاحتجاجات على بغداد ومحافظات الوسط والجنوب فقط، بسبب احتلال تنظيم
الدولة الإسلامية (داعش) لبقية المحافظات ذات الأغلبية السنية الديموغرافية،
ولتمتع إقليم كردستان باستقلال سياسي شبه تام عن الدولة العراقية، إلا أنها نجحت في
إنجاز عدد من المهمات الجوهرية التي كانت تعدّ حلماً عزيزاً لملايين اليائسين من
أي إصلاح.
بحسب الرؤية التحليلية للفعل السوسيوسياسي التراكمي، فإن هذه الموجة الجديدة من الاحتجاجات تعدّ امتداداً نوعياً لـ"انتفاضة الكهرباء" في حزيران 2010م، وانتفاضة "جمعة الغضب" في 25 شباط 2011م. إلا أن ما يميز الذهنية الشعبية الموجهة لهذه الموجة الجديدة، أنها تمتلك كافة مقومات الوعي المعارض الذي اتسمت به الانتفاضتان السابقتان، ولكن بنسب تكوينية أعلى جعلت
تأثير هذه المقومات يشتد ويطغى هذه المرة ما ولّد تطوراً نوعياً في معنى الاحتجاج وزخمه.
فالاحتجاجات السابقة كانت قد ارتكزت في حراكها السلوكي على إدراك المحتجين لخمسة مقومات أساسية، ولكن بنسب معتدلة وغير حاسمة، مع طغيان النزعة المطلبية الخدماتية:
1- النظام السياسي مسؤول عما أصابهم ويصيبهم من مظالم.
2- الأوضاع القائمة غير شرعية، وتوجد ضرورة واقعية وأخلاقية
لإزالتها.
3- الفوائد الناجمة عن الاحتجاج تفوق الكلف التي قد تتمخض
عنه.
4- لديهم الفاعلية السياسية للنجاح بتحقيق أهدافهم.
5- إن تغيير الأوضاع بات أمراً ممكناً وقابلاً للتحقق.
أما الموجة
الحالية فقد اتسمت بارتفاع ملحوظ – وأحياناً شديد- في النسب التكوينية لهذه
المقومات الخمسة، خاصة في مسألتي تجريم النظام السياسي ونزع شرعيته، مضافاً لها
مقوّمان إدراكيان جديدان:
6- تفتح فريد للنزعة الوطنياتية المرتبطة بإدراك عميق أن
إنقاذ البلاد صار مقترناً بمغادرة الدولة الطائفية (خبز .. حرية.. دولة مدنية).
7- الوعي الساخر من التدين الزائف الذي تمارسه السلطة
لابتزاز عواطف الناس وأصواتهم الانتخابية. وبمعنى أدق إدانة الأسلمة السياسية
بوصفها وسيلة لا أخلاقية لشرعنة الفساد ونهب المال العام وافتعال الصراعات المجتمعية
(باسم الدين..باكونا الحرامية).
وبعيداً عن
الأهداف السياسية المباشرة، يمكن تلمس سبعة تحولات حققتها الحركة الاحتجاجية لحد
الآن:
1. نزع الهالة اللاهوتية المزيفة: تم بنجاح وسلاسة إطلاق سراح "الله" المعتقل
في سجون أحزاب الإسلام السياسي منذ 12 عاماً، إذ عاد الرب إلى مكانه التقليدي
الأمثل في قلوب الناس وضمائرهم وسلوكهم الاجتماعي، وما عاد بالإمكان تسويقه
كهنوتياً – بنفس السهولة السابقة- لابتزاز الإرادة السياسية للمواطن. وبمعنى أدق،
فإن الوعي الشعبي قد أطاح بالهالة اللاهوتية المزيفة المحيطة برموز تلك الأحزاب، وأبطل
كل قدسية أو اعتبار فوق العادة لهم! وهنا يبرز السؤال الملح: ما الجدوى إذن من
وجود أحزاب دينية غادرها الله، بل تحرر منها؟!
2. تنام ملحوظ في الفاعلية السياسية للفرد العراقي: حدث ذلك في مقابل تراجع في عجزه واغترابه السياسي
المتَعَلّم والمترسخ منذ عقود. وهذه الفاعلية الاحتجاجية الناعمة لم تتفتح إلا
بتأثير بزوغ متزامن للهوية الوطنية التي طال تغييبها. فكل الدراسات السيكوسياسية
الميدانية الموثقة عالمياً ومحلياً تشير إلى وجود تلازم عجيب بين انبعاث الهوية
الوطنية واشتداد النزعة الاحتجاجية البناءة!
3. بروز "سيكولوجية التعرية": إذ وجد رموز
النظام السياسي الحالي أنفسهم عراة مفضوحين على نحو مفاجيء وغير متوقع في نظر
جمهورهم الذي فتح للتو عيونه. فبعد كل الحيل والتدليسات التي جرى ممارستها لأكثر
من عقد من الزمن لتعمية البصيرة المجتمعية المقهورة والمستلبة، استيقظ العقل الجمعي
وما عاد بالإمكان إعادته إلى حالة السبات السابقة.
4. الحراك السوسيوسياسي يتخذ منحى طبقياً: فمنذ الآن، بدأ هذا الحراك بالتحول البطيء من هويته
الطائفية المتمذهبة إلى هوية اجتماعية ذات ملامح طبقية اتضحت في انقسام صنّاع
الحدث إلى فئتين تصنفان على أساس القدرة على امتلاك موارد الحياة: (ظالمون
ومظلومون/ متخمون ومحرومون/ سرّاق ومسروقون). وهذا التحوّل في الوعي الشعبي إنما
يؤشر أن قوانين الصراع السياسي في العراق قد بدأت باتخاذ منحى أكثر عقلانية وجدوى
من الناحية التطورية، إذ لطالما شكّل الوعي الطبقي المتنامي مدخلاً مؤكداً إلى
البدء بإعادة أنسنة الحياة على أساس النوع البشري الموحد لا على أسس الهويات
الإثنية المتخيَّلة.
5. افتراق المرجعية النجفية عن التأسلم السياسي: الموقف الذي عبّرت عنه هذه المرجعية في الدعوة للإصلاحات
الجذرية - بصرف النظر عن مناقشة الغايات البعيدة لهذا الموقف المتأخر زمنياً-،
يشكل نقطة افتراق غير مسبوقة بين البنية الفوقية العقائدية للاحتجاج العَلَوي
التقدمي عبر التاريخ (ممثلة بالمرجعية السيستانية حصراً)، وبين الأداء الرث
والرجعي للأحزاب المتأسلمة المتلفعة بالعباءة العلوية. هذا الافتراق الذي طال
انتظاره، سيشكل بمرور الوقت آلية ضاغطة لاستعادة الهيبة العلوية المتضررة بفعل
الفساد الإسلاموي، إذ أصبح من المسلّم به أن حفظ هذه الهيبة – لمن أراد أن يحفظها-
ما عاد ممكناً إلا في ظل الدولة المدنية العادلة!
6. بروز تقارب ميداني بين اليسار المدني واليسار الديني: يمكن الحديث منذ اليوم وبتوكيد أكثر من السابق، عن
ضرورة التنسيق الاحتجاجي بين هذين اليسارين. فالمادة البشرية الديناميكية التي
حركت الشارع العراقي خلال الأيام الماضية، كانت مزيجاً فريداً من كل العقائد
والمذاهب والطبقات والمهن والتوجهات الحياتية. وقد ثبت بالملموس أن النزعة
اليساروية الاجتماعية ذات الجذر السيكولوجي في الشخصية العراقية، إنما هي متوافرة
لدى المتدينين وغير المتدينين على حد سواء!
7. انبعاث حلم الدولة المدنية الرشيدة: إذ أصبحنا أقرب من أي وقت من هذا الحلم. ولا يقصد هنا
القرب السياسي التنفيذي -بعيد المدى-، بل القرب النفسي الاقتناعي الماثل في التحول
الدراماتيكي للرأي العام العراقي. وهنا تكمن الثقة الكبيرة بأننا قد دخلنا بالفعل
مرحلة الموت السريري لسلطة الأسلمة السياسية في العراق!
المؤشرات السيكولوجية الأولية لشخصيات
زعماء الإسلام السياسي في العراق عامة، تؤكد أنهم يفتقرون -من بين
خصائص كثيرة- لأربع خصائص جوهرية هي: الواقعية العملية، والاستجابة
السريعة، وإدراك الزمن، وجرأة الفرسان!
يضاف إلى ذلك أن المتأسلمين سياسياً في كل مكان، هم في الغالب قدريون ورغبيون حينما يتعلق الأمر بمصير سلطتهم، إذ يمارسون كل أنواع "الإنكار" و"الإسقاط" ليوهموا أنفسهم أن أي خطر يحيط بهم إنما مآله الزوال بقدرة قادر. وذلك مرده بنيتهم العقلية القائمة على عزو الظواهر إلى الساكن المجهول لا إلى المتحرك المعلوم!
لقد تعودوا أن ينظروا إلى التاريخ على أنه حكاية دينية مؤمثلة ينتصر فيها الخير "الذي يمثلونه" على الشر "الذي يمثله من يعارضهم"، لا بوصفه نتاجاً تطورياً للانتقال التدريجي والعسير من الوعي الزائف إلى الوعي المعارض. وهذا التصلب النفسي ممزوجاً بعدم القدرة على التعلم من التجارب، سيفعل فعله في العراق أيضاً، إذ سيظلون موهومين أن "قدرة قادر" ستنقذهم في آخر المطاف!
إن كروموسومات وجينات التأسلم السياسي بأنواعه
لا تقوى على الصمود لحقبة تاريخية طويلة لأنها لا تتفاعل مع قوانين الفيزياء
الاجتماعية..
وبتحليل مماثل
لسلوك
رأس الحكومة (أي رئيس مجلس
الوزراء الحالي) فإنه يبدو مصاباً -من الناحية السياسية- بما يمكن تسميته بـ"عقدة الصومعة الحزبية"، إذ يجد
أماناً عصابياً مزيفاً داخل زنزانة حزبه حد العجز النفسي عن الخروج
إلى الأفق
الوطني العام للتصرف بوصفه رئيس السلطة
التنفيذية لكل البلاد، عبر اتخاذ قرارات مصيرية لمحاسبة
الفاسدين في حزبه ممن يشغلون مراكز سيادية في الحكم، واتخاذ ستراتيجية جذرية
لإصلاح النظام السياسي المنخور. فالحزب هنا يمارس وظيفة "الطوطم
والتابو" في العقل الباطن لهذا الرجل، أما الوطن والدولة فلعل
ليس لهما سوى وظيفة عاطفية إشباعية لديه فحسب.
ومع ذلك لا بد من الإقرار أن هذا الرجل لديه نوايا طيبة، بحكم تنشئته البغدادية الكرادية التي منحته نزعة تعاطفية ملموسة حيال الناس وآلامهم. لكنه -ومنذ أن استلم المنصب- مشوش التفكير، ينقصه الإدراك الشامل والموسوعي لأوضاع البلاد وللحظة التاريخية الماثلة تحديداً. ما يزال متردداً كشأنه طوال السنة المنصرمة من حكمه. ولاءه الحزبي يمثل هاجساً "ضميرياً" صلباً يستحيل عليه تجاوزه باتجاه فضاء الوطن المدني الموحد. وفوق كل ذلك لا تنقصه نرجسية كامنة تفلت منه أحياناً حينما يستطرد في الحديث عن "مزاياه" الشخصية ومآثر والده الطبيب المعروف مدير مستشفى الجملة العصبية قي الخمسينات!
وبنظرة محايدة غير متعجلة، يمكن الافتراض أن رئيس مجلس الوزراء الحالي إذا تمكن من التوفيق بين مفاهيم الحزب والدولة والوطن على نحو متسق وجريء وديناميكي وسريع ، فسيكسر حاجز عقدة الصومعة الحزبية ويغادر زنزانته الإسلاموية الرثة. وبخلافه -وهو الأكثر احتمالاً- فسيستمر بالمماطلة والتسويف والتردد ليكمل مهمة سلفه في الإجهاز الكامل على فكرة العراق... الوطن والذاكرة والهوية!
في ضوء عدم تبلور مطالب محددة متفق عليها في التظاهرات
السابقة؛ وفي ضوء تراجع المطلب الجوهري والفوري بتشكيل حكومة خبراء (تكنوقراط)؛ وفي
ضوء تشتت الرؤية الموحدة المرتجاة من هذه الاحتجاجات سواء في بغداد أو في مدن
الوسط والجنوب؛ وفي ضوء التباين الواسع في اللغة المطلبية للتظاهرات بين قطبي
التشدد والمرونة؛ وفي ضوء تلكؤ الإصلاحات الحكومية وحالة التردد والتذبذب التي
تتسم بها شخصية رئيس الوزراء وسعيه لاستبدال الأفعال الملموسة بالأقوال الرنانة؛
يبرز تخوف جدي محتمل لا مفر منه: هل ستتحول ساحة التحرير بمرور الوقت إلى
"هايد بارك" أسبوعي للتطهر النفسي وتصارع الأفكار فحسب، بما يفقدها زخم
التأثير الذي حققته في بدايتها في إرعاب السلطة وإرغامها على تقديم تنازلات معينة
باتجاه الإصلاح؟!
هذا التساؤل له ما يبرره آنياً ومستقبلياً بحكم ارتياح الحكومة الواضح لبقاء الحركة الاحتجاجية السلمية في إطار محدود ومتوقع مكانياً وزمانياً هو "ساحة التحرير/ يوم الجمعة"، ما يسهّل عملية رصد رموزها وتحديد تحركاتها والاعتماد على عامل الزمن لتفريغها من طاقتها!
ولأجل تلافي هذه الاحتمالات، تبرز عدة مقترحات متزامنة:
1- تشكيل حكومة خبراء (تكنوقراط) هو المفتاح المركزي
للإصلاح: فهذا المطلب باستيزار خبراء مستقلين عن القوائم
السياسية المتمذهبة – وهو ما دعت إليه المرجعية النجفية أيضاً- يعدّ حجر الزاوية
في الإمساك بدفة التغيير الحقيقي، إذ سيفتت لأول مرة "قدسية" المحاصصة
الطائفانية، ويقود بدوره إلى إصلاحات دستورية وبرلمانية وقضائية حقيقية. فالمطلوب
هو إعادة تفعيل هذا الشعار بوصفه المدخل الأساسي المؤدي موضوعياً وبالتدريج إلى
بقية الإصلاحات. وهنا تكون الحركة الاحتجاجية مطالبة بتقديم أسماء محددة لمرشحيها
الخبراء لشغل الكابينة الوزارية الجديدة، وهذا ما يتسق مع تقاليد كل الحركات
الاجتماعية الساعية للتغيير، عالمياً وحتى عراقياً في حقبة الخمسينات من القرن
الماضي. ويتطلب ذلك أن يتوافق المحتجون في ساحة التحرير على تقديم قائمة بأسماء
شخصيات مدنية تكنوقراطية لامعة، غير حزبية، بالتركيز على (12) وزارة أساسية هي:
المالية، والنفط، والخارجية، والكهرباء، والعدل، والتربية والتعليم، والصحة،
والتجارة، والنقل والاتصالات، والعمل والشؤون الاجتماعية، والصناعة، والزراعة؛
بمعدل (3) أسماء لكل منصب وزاري، إذ يمكن لرئيس مجلس الوزراء انتقاء ما يراه
مناسباً من بين هذه الأسماء المرشحة لكل حقيبة وزارية.
2- التحضير لانبثاق كيان سياسي مدني جديد من ساحة التحرير: أهم الخطوات على طريق إدامة الزخم الاحتجاجي وتثبيت
دوره التحويلي للحياة السياسية، أن يتحول منسقوه وطلائعه ومؤيدوه المدنيون إلى
كيان سياسي متماسك له رموزه ومسمياته وخططه وغاياته وآلياته. ولعل أبرز ما ميّز
الحركة الاحتجاجية في أسابيعها الأولى، بوصفها حركة اجتماعية عفوية إصلاحية، هو كارزماتيتها الجمعية غير المشخصنة بمسميات فردية أو
حزبية أو مذهبية أو ايديولوجية معينة، وكان ذلك من أسباب شرعيتها وأحقيتها وقوتها
ونجاحها لكونها عابرة لأي تخندقات قد تجعلها عرضة للتشكيك أو التخوين. إلا أن ضمان
استمرار الزخم الاحتجاجي وتنوع أشكاله، يتطلب حتماً تأسيس إطار سياسي أخلاقي يحدد
له تكتيكاته الآنية وستراتيجياته القادمة. ودون هذا الإطار التمثيلي والوظيفي
ستنطفيء الحماسة ويسود اليأس والعدمية وتنكسر الفاعلية، خصوصاً في ضوء حالة الموت
السريري التي يمر بها النظام السياسي المغلق، والفاقد لإمكانيات الإصلاح الذاتية،
والعاجز عن الاستجابة لمطالب المحتجين.
3- حماية الحركة الاحتجاجية من النزعة "الكرنفالية": يلاحظ أن هذه النزعة باتت تغلب في تظاهرات يوم
الجمعة، ما يجعلها أقل تأثيراً في إزاحة الأحداث نحو المآلات المطلوبة. ويتطلب هذا
من الجهات التنسيقية أن تتلافى ذلك عبر التأكيد على الهوية السياسية الحادة
للتظاهر من خلال الأداء الجمعي الموحد للهتافات والشعارات، والتقليل قدر الإمكان
من الممارسات ذات الطابع الاحتفالي الفرداني الذي ترتاح له السلطة وتطمئن. النزعة
الجذرية (الراديكالية) ذات الأداء السلمي هي ضمانة مهمة لاستمرار التأثير
الكارزماتي والسياسي للحركة. وفي كل الحالات تبقى الخسائر والتضحيات أمراً لا يمكن
تلافيه إذا ما كان هناك إصرار على بلوغ الأهداف الإصلاحية بل الإنقاذية لأوضاع
البلاد ومستقبلها. وأي تضحيات ستقع إنما ستسهم بالضرورة في نزع ما تبقى من شرعية
النظام السياسي الحالي المتهالكة.
4- الدعوة لكتلة
سياسية تاريخية: في زمن
الكوارث السياسية الكبرى، تبرز دوماً فكرة "انطونيو غرامشي" حول
إمكانية تأسيس "كتلة تاريخية" بين التيارين المدني والديني
لإنقاذ البلاد، بحسب خصوصية كل مجتمع ودرجة تطوره السياسي والاجتماعي. الايديولوجيات المتضاربة لا تنبع بالضرورة من سيكولوجيات
متضاربة. فالمحروم المتدين لا يختلف عن المحروم غير المتدين في بنائه الانفعالي
المتضرر جراء الظلم والإفقار والتهميش، لكنهما قد يختلفان في كيفية تسبيبهما
لحالتهما وفي مدى تسويغهما أو عدم تسويغهما لها.
ففي تظاهرة 28 آب 2015 المليونية في ساحة التحرير، التقى التياران المدني والديني (الصدري تحديداً) في كيفية تسبيبهما للظلم الاجتماعي الماثل، وفي وعيهما الاحتجاجي بالفقر والحرمان والذل، ضمن إطار وطنياتي موحد وغير مسبوق في عاطفته وغاياته، قائم على أساس القواسم المطلبية الكبرى المشتركة التي تتضاءل عندها الاختلافات الايديولوجية في لحظة إنقاذ وطن يتفكك وينهار. أليست هي اللحظة المناسبة لانبثاق كتلة تاريخية – بشقيها المدني والديني- ذات توجه يساروي اجتماعي، تعمل على تأطير الاحتجاجات الحالية في مسارات تنظيمية فاعلة لضمان استمرارية زخمها، وتحديد ستراتيجية توجهاتها القادمة؟!
هذه الكتلة يمكن أن تتسع لتشمل كل التيارات العقلانية والإصلاحية والشخصيات المثقفة والأكاديمية من مختلف التوجهات، بما يمنحها حصانة سياسية وأمنية ضرورية بوجه التهديدات والتحديات الماثلة، فمحاولات إجهاض الحركة الاحتجاجية عبر الاغتيالات والتسقيط السياسي والتخويف والإغراء قد بدأت، وستشتد في المرحلة القادمة. هذه الكتلة العابرة للطائفية، ستكون مرشحة لاكتساح الانتخابات القادمة سواء كانت مبكرة أو متأخرة!
التيار المدني الذي يعود له الفضل الأول في قدح شرارة الاحتجاجات، مطالب بتأسيس كيان سياسي مدني من رحم الاحتجاجات من جهة –وهو ما تم التطرق إليه في النقطة (2) السابقة-، وهو مطالب أيضاً من جهة أخرى بالانفتاح على الفئات والتيارات الدينية شبه المدنية ذات النزعة الوطنياتية الشعبوية غير الملوثة بفساد السلطة، بما يتيح تفكيك الحاجز الآني الصلب بين الطائفة والوطن، لتنظيم نشاطات احتجاجية جديدة أكبر كماً وأعمق نوعاً. فالعمل الاحتجاجي الجمعي ليس تنفيساً تطهرياً فحسب بل هو قبل كل شيء شرارة طموحة لاجتذاب كل المعنيين بغايات الاحتجاج من صامتين ومترددين وعاجزين وعدميين. فاستعادة العراق تمر أولاً وأخيراً باستعادة هويته الوطنية، وهو هدف تكتيكي وستراتيجي معاً يتحقق تدريجياً عبر محو دؤوب للمسافة القاتلة بين الدين والوطن!
جدلية الأفول والبزوغ
إن شرعية
السوسيولوجيا العراقية المدنية الاحتجاجية باتت تنمو بتريث وثبات في الوعي الوطني
الجمعي كل ساعة، فيما تنهار بسرعة شرعيةُ نظام الأسلمة السياسية في نفوس أصحابه
قبل نفوس الناس!
وقد أفلحت الحركة
الاحتجاجية الحالية أولاً – وقبل أن يتحقق بالفعل أي إصلاح أو تغيير حقيقي مرتقب-
في رد الاعتبار التاريخي إلى الإنسان العراقي، وأعادت للكبرياء الوطني – المثلوم منذ عقود- عزته
ورومانسيته. فالمكان العراقي العام لطالما كان موحشاً ووحيداً وخائفاً، لكنه اليوم بات
يحتفل ويحتفي بعودة الإنسان إليه. وحتى إذا
انتكست الحركة الاحتجاجية الحالية لأي سبب، فإنها قطعاً أفلحت في التأسيس لوعي
مستقبلي أشد جذرية وأقرب قطافاً!
لا أظن أن ساعة المنطقة الخضراء ستتمكن من اللحاق في نهاية الأمر بتوقيتات الحركة الاحتجاجية الناهضة، فالساعة تنكسر، والزمن حي أبداً. ومن يستطيع أن يلتقط اللحظة التاريخية الحالية، سيصنع منها زمناً آمناً ورحيماً بعذابات هذا الشعب!
سبتمبر 2015