We offer the discussion by Dr. Faris Kamal Nadhmi, Professor of Psychology, Salahiddin University, Arbil, KRG, Iraq, and President, the Iraqi Association for Political Psychology with al-Quds newspaper in Jerusalem: "The Iraqi Political System has lost its Legitimacy"
:
القدس الاجتماعي فارس كمال نظمي ل «القدس العربي
لى موفّق:
يذهب الباحث العراقي الدكتور فارس كمال نظمي، من موقع اختصاصه في علم النفس
الاجتماعي إلى قراءة المشهد العراقي والتحولات التي يشهدها من منظار نفسي- سياسي-
اجتماعي وليس من زاوية سياسية محضة. وما يهمه هو العمل على تفكيك «التوهمات»
والظواهر في المجتمع العراقي لكي نفهمها كما حدثت وليس كما نعتقد أنها حدثت.
في
رأيه أن العراقيين كانوا ينتظرون بعد 2003 نمطاً من الحكم يجمع بين الحرية
والعدالة الاجتماعية بعد عصر من الاستبداد، لكن الأمريكيين قاموا ببناء نظام
«الأسلمة السياسية» ما أدى إلى تطاحن داخلي وإلى تفتت البلاد وغرقها في الطائفية
والتطرف والفساد.
الأستاذ الأكاديمي رأى باكراً في سياق التحليل الاجتماعي، أن الاحتجاجات قادمة لأن
الوعي السطحي بدأ يحل مكانه وعي معارض، وأصبح الفضاء العمومي في العراق مليئاً
بمفردات الاستياء والغضب، والأهم أن الناس بدأت تفكر بالبديل المغاير، ومقتنعة أن
الوضع الحالي انتهت مدة صلاحيته، وقد يطول لمدة إضافية لكنه غير قابل للاستمرار.
هو يرى أن التيار الصدري بدأ يخرج من إطار «الثيولوجيا» السياسية ويدخل في الإطار
«الوطنياتي» العام، ولا يمكنه أن يستمر بالطريقة السابقة نفسها ويبقى ضمن التحالف
الشيعي السياسي القائم، لأن وعي قواعد التيار تقدم إلى مستوى آخر، ما يعني أن
العودة إلى خيار الطائفية السياسية من جديد قد يؤدي إلى حدوث انشقاقات كبرى داخله.
وهنا نص الحوار:
■ اشتغلتَ على الإسلام السياسي من منظور نفسي وعلى اليسار من منظور اجتماعي، هل
أنت إسلامي أو يساري الهوى؟
■ أنا يساري الهوى، لكن ليس لدي ارتباط حزبي أو سياسي. توجهي الفكري ينطلق من فكرة
اليسار كمفهوم اجتماعي أكثر مما هو سياسي. وربما هناك خلاف في العراق حول ما أكتبه
أحياناً.
كثير من الجهات التي يفترض أن تكون قريبة، تنتقدني لأنني أتحدث عن يسار
ديني مثلاً، أو عن يسار اجتماعي أو عن «يساروية» كما أسميها. أنا أحاول أن أذهب
بعيداً، وفي رأيي أن اليساروية الاجتماعية في العراق لا اليسار السياسي هي الأكثر
تجذراً. أحاول أن أعيد النظر في المفاهيم التقليدية التي استخدمت على مدى عقود من
الزمن. فالعراق مكان خصب لإعادة إنتاج المفاهيم وفق رؤى مستقاة من العلوم
الاجتماعية. وأسعى إلى أن أقدم أفكاراً ومنظورات وليس آراء.
■ أطروحة الدكتوراه قدمتها سنة 2009 تحت عنوان الهوية الوطنية العراقية وعلاقتها
بالاحتجاج، كيف استشرفت ذلك في وقت لم تكن كل تلك الظروف قد نضجت كما هي الحال
اليوم؟
■ كان عندي تصور منذ 2005 و2006 بناء على المعطيات المستقاة من التحليل الاجتماعي،
بأن الاحتجاجات قادمة. كنت أرى أن الوعي السطحي أو الزائف كما يُسمى بالتعبير
الماركسي، بدأ يتراجع في العراق وينشأ مكانه وعي معارض، وأن الثقافة السياسية بدأت
تتغير لدى الناس بعد أكثر من أربع عقود من الاستبداد والإنغلاق، وأن ثقافة الخضوع
بدأت تتحول إلى ثقافة المشاركة والمساءلة والاستياء. هذه ظواهر نرصدها بشكل محايد
على أنها مؤشرات إلى حدث قادم.
■ هل تعتقد أن المجتمع العراقي قادر على الخروج من الاصطفاف المذهبي الذي أضحى
مهيمناً على طبيعة نظام الحكم منذ بنائه سنة 2003؟
■ سأتحدث من منظور اجتماعي تحديداً لأن هناك نظريات عدة في السياسة. توجد تصورات
نمطية خارج العراق لما كان يحصل داخله، ولكني أعتقد وأنا عايشت لحظة 2003 وكنت
استاذاً في جامعة بغداد، أن مسألة الهويات الإثنية لم تكن آنذاك طاغية في
«المخيال» الاجتماعي. كان هناك شعور عام لدى العراقيين بأن عصر الاستبداد قد
انتهى، وأن هذا العصر لم يكن ممكناً التخلص منه من دون وجود قوة مسلحة عنيفة مثل
الولايات المتحدة الأمريكية، ولاسيما أنه لم تكن هناك معارضة قوية.
كان العراقيون
ينتظرون بعد 2003 نمطاً من الحكم يجمع بين الحرية والعدالة الاجتماعية، ولم يكن
أحد يتحدث عن أحزاب إسلام سياسي أو يعرف من هي، إلاّ الندرة القليلة المختصة. كان
في بال العراقيين من عامة الشعب أن رئيس الوزراء سيكون شخصاً ليبرالياً علمانياً
وله توجه أمريكي.
هذا كان أمراً متعارفاً عليه واستمر منذ نيسان/ابريل وحتى تموز/يوليو 2003. ولكن
يبدو لي أنه في هذه الفترة، اتخذت الإدارة الأمريكية قراراً آخر، هو إعادة بناء
السلطة على نمط إثني سياسي. لم تذهب إلى خيار بناء حكومة انتقالية لثلاث أو خمس
سنوات، رغم وجود مجلس خبراء شكّله الأمريكيون في حينه قبل أن يدخلوا العراق، إذ
اختاروا مجموعة من نحو 150 شخصية خبيرة في كل الاختصاصات ليمثلوا مرحلة انتقالية
ما بعد الاحتلال، لكن هذا المجلس أُلغي من قبل الحاكم الأمريكي بول بريمر، وذهبوا
إلى فكرة مجلس حكم انتقالي من 25 شخصاً (13 شيعة و5 سنّة و5 أكراد وتركماني واحد،
ومسيحي واحد) لم يتم اختيارهم على أساس الكفاءة والخبرة، بل كانوا في غالبيتهم من
دون أي خبرة وتمرّس في شؤون الدولة، ويفتقدون لفكر سياسي. في اعتقادي كان هناك
قرار أمريكي بوجوب بناء سلطة على هذه الشاكلة، والناس في لحظة الفراغ السياسي يتماهون
مع أي شيء يُقدم إليهم لأنهم بحاجة إلى أي إطار من الأمان.
هي مسألة سيكو-سياسية،
فقُدم للناس هذا الإطار وتمت عملية «تذكير» الناس بهوياتهم الإثنية وإعادة إنتاجها
على المستوى السياسي. تلك الهويات الإثنية كانت موجودة في السابق على المستوى
الديموغرافي لا السياسي.
■ في رأيك أن تلك المفاهيم الاثنية لم تكن متجذرة قبل 2003؟
■ لم يكن هناك مفهوم للشيعة بالمطلق أو السنّة بالمطلق داخل العراق قبل الاحتلال
الأمريكي على الأقل. مثلاً مفهوم الشيعة (وكذلك السنّة) أنا أفرزه إلى ثلاثة
عناصر: شيعة لاهوتية أو ثيولوجية (مراجع ومدارس)، وشيعة سياسية (الأحزاب المعارضة
التي عملت لسنوات طويلة في الخارج) وهناك الشيعة السكانية أو الديموغرافية التي
تجدين فيها الأفكار المتعددة والتنوع الثقافي. على سبيل المثال معظم الشيوعيين
خرجوا من البيئة الشيعية. ما أقصده أنه توجد توهمات. وما حاولته طيلة هذه السنوات
هو العمل على تفكيك هذه التوهمات. هناك من يرى أني قدمت شيئاً فيما يخص تفكيك هذه
الظواهر كي نفهمها كما حدثت وليس كما نعتقد أنها حدثت، فالاعتقاد شيء والحقيقة
العلمية شيء آخر.
أمريكا أتت إلى مجتمع كان ينتظرها ويعدّها محرراً، ولذا لم تحدث مقاومة داخل بغداد
وانسحبت قوات النظام واختفت تماماً، ودخل الأمريكان وخرج الناس تأييداً لهم. في
الأشهر الأولى كانوا ينتظرون، لم تكن هناك عملية «أثننة» للهويات، بل عملية بحث عن
مُنقذ بعد سنوات من الحصار والجوع والفقر والمرض.
الذي حدث أن الأمريكان قد أنتجوا
ثلاث سرديَّات أو مرويَّات في مجلس الحكم، هي اليوم متحاربة. هذه السرديَّات
استندت إلى ذاكرات تاريخية تمّ تفعيلها: ذاكرة الخلافة وذاكرة الإمامة، ذاكرة
الشيعة وذاكرة السنّة، ذاكرة الكرد وذاكرة العرب، ذاكرة الأنفال وذاكرة المقابر
الجماعية. الأمريكان هم من أسسوا علم الاجتماع السياسي ويعرفون كيف تعمل الهويات
وكيف يمكن إعادة انتاجها.
الهوية الديموغرافية يمكن أن تكون شيعية، سنية، مسيحية،
صابئية، إيزيدية، كردية الخ… هذه الهويات أعيد أنتاجها أو فُعّلت على أنها هويات
سياسية، أي تمّ اختراعها. التقنيات السياسية تستطيع أن تخلق في حالات الفراغ
السياسي مثل العراق هذا النوع من المرويّات والسرديّات والهويات.
الشيعة الديموغرافية لم يكن لديهم هَمْ في تلك اللحظة أن يُعبّروا عن أنفسهم على
أنهم الطائفة الأقوى، ولكن الأمريكيين سمحوا بوصول قادة الأحزاب السياسة الإسلامية
خصوصاً الشيعية، والعراقيون فوجئوا بالقرار الأمريكي بتأسيس مجلس حكم على أساس
إثنيات إسلاموية وليس طبقاً لإثنيات ديموغرافية. وهذا يحيلنا إلى التفكير الأمريكي
التقليدي الذي يعتقد أن التجربة الأمريكية يمكن إعادة إنتاجها ثقافياً في أي بلد
آخر.
ما فعلوه في تلك اللحظة وأعادوا تكراره في لحظات 2008 و2010 و2014 التي كان
ممكناً فيها إنقاذ الوضع، هو العمل بإصرار على تثبيت نظام «الأسلمة السياسية».
واليوم وصلنا إلى أن البلد قد تفتت ويعاني من الطائفية والتطرف والفساد.
■ ولكن أنت تتحدث في كتابك الآخير عن «أفول الأسلمة وبزوغ الوطنياتية» هل فعلاً
حصل تحول وكيف؟
■ لم تكن أحداث السنوات الأربع عشرة الماضية بين 2003 و2017 تتبع خطاً أفقياً، بل
حدثت فيها مسارات متعرجة. في السنوات الست الأولى حصلت انتكاسة، عادت الناس إلى
هوياتها ما قبل المدنية وبدأت تبحث عن تصنيفات ضيقة للذات الاجتماعية، ثم بدأ يحصل
العكس مع مرور الزمن.
الحركة الاحتجاجية، التي انطلقت سنة 2010 اشتدّ عودها في السنوات الثلاث الأخيرة.
وهي تمثل توجهاً جديداً هو توجه المجتمع وليس السلطة هذه المرة. فخلال السنوات
العشر الماضية، حصل تراكم هائل في الحرمان، وحدث أيضاً إعادة اعتبار للهوية الوطنية،
ضمن ديناميات الهويات، كإمكانية حل للخروج من الوضع المأزوم، فشكل ذلك بروزاً
لمعطى جديد. كان هناك حرية تعبير وما زالت، وإن كانت غير مضمونة ولا يحميها
القانون، كما نشأ إعلام حر ومجتمع مدني ومنظمات غير حكومية ومبادرات كثيرة، ما جعل
الفرصة متاحة أمام المواطن العراقي أن يعتقد بشيء آخر جديد.
هذا النموذج خلق
بدايات لثقافة سياسية نسميها ثقافة الإستياء والغضب والمساءلة والمشاركة. طبعاً لم
تصل إلى حد إمكانية أن تغيّر نظام الحكم غداً، لكنها نجحت إلى حد ما في أن تكون
فاعلة.
الفضاء العمومي في العراق أصبح مليئاً بمفردات الإستياء والامتعاض، والأهم
أن الناس بدأت تفكر بالبديل المغاير، هي مقتنعة أن الوضع الحالي انتهت مدة
صلاحيته، قد يطول لمدة إضافية لكنه غير قابل للاستمرار. هكذا كانت الناس تنظر
أيضاً إلى الوضع في زمن صدام حسين. أخطر عوامل التغيير في التاريخ هي عندما تفقد السلطة
أو النظام السياسي شرعيته بالكامل في أذهان الناس.
■ في رأيك هل الناس تعرف ما تريد من بدائل؟
■ الحركة الإحتجاجية مستمرة منذ تموز/يوليو 2015 وقد مضى عليها نحو 90 أسبوعاً ولم
تتوقف. كل المؤشرات التي ظهرت من تفاعل الرأي العام والفعاليات الاحتجاجية التي حدثت
والحراك الشبابي والمواقف الإيجابية للمجتمع الدولي المحايد نسبياً مثل الاتحاد
الأوروبي، تدل أن الحدث الذي تمّ صنعه في 2003 لإنتاج هويات سياسية إثنية آنذاك،
قد بدأت إعادة إنتاجه اليوم بكيفية أخرى.
الهويات الديموغرافية نفسها سواء كانت
الشيعية أو السنية وحتى الكردية وما بينها من هويات فرعية أخرى، يعاد إنتاجها
اليوم على أساس توجهين: الأول بدأ يأخذ طابعاً طبقياً، إذ شرعتْ الناس تفكر وفقاً
لثنائية الظالم والمظلوم والسارق والمسروق. والثاني أخذ يتضح عبر تكوين وعي سياسي
معارض، وإنْ كان هذا الوعي لا يمكنه التحول بـ»رمشة عين» إلى سلوك سياسي.
توجد اليوم عناصر جديدة في البيئة السياسية العراقية، أبرزها تطور الثقافة
السياسية ونشوء وعي معارض وتآكل شرعية النظام السياسي بشكل كبير في إدراكات الناس
وليس في سلوكها. فكرة المستقبل باتت تُطرح الآن.
السنوات العشر الماضية كانت جلّها
سرديات لاهوتية مُتخيلة ماضوية أدت إلى تطاحن أهلي. اليوم هناك حوار مجتمعي حول
مستقبل العدل وحرية التعبير في هذا البلد. أصبح الفضاء العمومي يمتلئ بآراء الناس.
وهناك أمل بأن التغيير أمر وارد الحدوث.
■ هل التغيير في متناول اليد، بمعنى أن هناك حركة سياسية كافية لإحداث البديل؟
■ ليس في هذه اللحظة، ولكن الطريق قد بدأ. والفرز واضح، إذ انبثقت حركة احتجاجية
ذات أساس مدني قوي. هي تتضمن أناساً علمانيين ومتدينين وحتى عرفانيين، كلهم يعملون
على فكرة واحدة هي «المواطنة»، بالإضافة إلى اشتداد «النزعة العراقوية» عند أي حدث
رياضي أو ما شابه، الأمر الذي يؤدي إلى نوع من التحفّز الداخلي بأن الهوية الوطنية
العراقية تستحق الاحترام أكثر من أي هوية أخرى فرعية.
■ كم يحتاج هذا المسار من الوقت للنضوج؟
■ انتخابات 2018 باتت قريبة، وهناك اليوم نقاش كبير لدى التيارات الإصلاحية
المدنية حول احتمال المشاركة، وما إذا هناك إمكانية لتشكيل ائتلاف فاعل ومؤثر،
يمكن أن يحقق نقلة نوعية في تركيبة البرلمان المقبلة، بعد 14 سنة من وجود تركيبة
برلمانية مقفلة على الإثنيات المتصارعة، تقاسمت كل ثروات البلد وأنتجت ما أنتجته
من فساد باستثناء تشريع بعض القوانين القليلة الجيدة الذي حدث بتأثير المجتمع
الدولي.
الاحتمال الآخر هو مقاطعة الانتخابات بالمطلق لصالح نشوء حركة معارضة خارج العملية
السياسية. حتى السنة الماضية، لم يكن أحد يفكر بالخروج من العملية السياسية، لأن
فكرة المعارضة لم تكن موجودة في التفكير العام. اليوم هناك تيار يتحدث عن ضرورة
الخروج من كل العملية السياسية في الوقت الحاضر من دون رفع السلاح إنما بشكل سلمي،
تحضيراً لانتخابات سنة 2022. في الحالتين لا يمكن التنبؤ بمسارات الأحداث تفصيلياً
في هذه اللحظة.
■ المراقب يرى أن الرافعة الحقيقية للحركة الاحتجاجية هي تيار مقتدى الصدر،
وبالتالي فهذا يعني الاتكاء على رافعة بتوجهات دينية؟
■ أعتقد أن كل الحركات السياسية هي في النهاية جسم اجتماعي ولا يوجد شيء جامد. انا
أفهم التاريخ على أنه ليس حركة خارجية ظاهرية بل يجب العمل على الجزئيات وفهمها
والتحكم فيها. العراق وضع معقد ومتداخل جداً، وعانى منذ 50 سنة من أزمات ثقافية
وإيديولوجية وسيكولوجية فضلاً عن الأزمات السياسية والاقتصادية والحربية. راهناً،
نحن بحاجة إلى تفكيك هذا الوضع. ما أراه أن جزءاً من التحالف الشيعي السياسي (أي
التيار الصدري) بدأ يعيد إنتاج نفسه بحيث يمثل نزعة «عراقية وطنياتية» ويعزى ذلك
جزئياً إلى نظرة الاستعلاء والاستصغار التي يُنظر بها إلى الصدريين داخل الإطار
الشيعي السياسي.
هذه النظرة ليست جديدة، إنما تنامت في السنوات الأخيرة بفعل عوامل
طبقية نتيجة الحرمان والحيف المتزايد الذي يشعرون به، لاسيما أن الحركة الصدرية
كانت منذ بداياتها حركة شعبية، ونتيجة تزايد الوعي بأن الزعماء الشيعة هم الذين
أسهموا في سرقة شيعة العراق. التمايزات ذات الطابع الطبقي بقيت موجودة، وقاعدة
التيار الصدري لم تتحول إلى طبقة وسطى ولم يسعفها أحد، كما لم يحدث تغيير في
البنية السوسيو- اقتصادية للشيعة الديموغرافية بما يجعلهم على وئام مع الشيعة
السياسية. كل الذي حدث أن أربع عشرة سنة من إعادة إنتاج الفقر والظلم والحرمان
باتت تعطي اليوم طابعاً طبقياً و»عراقوياً» للحركة الصدرية، لأن المحروم عندما
يُذكّر بمحروميته، فإنه يلجأ نفسياً إلى أقرب هوية توفر له القوة والهيبة.
ولذلك أرى أن الحركة الصدرية بدأت تخرج من إطار الثيولوجيا السياسية وتدخل في
الإطار الوطنياتي العام. كمراقبين نقول: إذا كان هذا الأمر سيخلق حركة معارضة
ويعمل على تفكيك الطائفية السياسة فليكنْ، أما إذا كان ذلك لن يستمر لأي سبب آخر،
فكل حادث حديث.
■ في تقديرك هل يريد التيار الصدري الخروج فعلياً من المحاصصة والطائفية السياسية؟
■ لا يمكن للتيار الصدري أن يستمر بسياساته السابقة نفسها بأن يبقى ضمن الإطار
التقليدي كتحالف شيعي سياسي يضم مجموعة أحزاب متمذهبة رئيسية، لأن الوعي السياسي
لقواعد التيار قد تقدم إلى مستوى آخر. وبالتالي فإن العودة إلى خيار الطائفية
السياسية من جديد قد يؤدي إلى حدوث انشقاقات كبرى داخله، وهو أمر تريد قيادة
التيار أن تتجنبه لحرصها على أن تبقى تمارس التأثير على أتباعها. فهناك ضرورات
مجتمعية وديناميات سياسية هي التي تخلق القرار. وإن أي تراجع عن الخروج من
الطائفية السياسية سيؤدي إلى انتحار سياسي، وهم يدركون ذلك.
■ هل تشمل قراءتك السيكو- اجتماعية مختلف مكونات المجتمع العراقي، واقع المحافظات
السنية وواقع الأكراد، أم أنها تركز أكثر على البيئة الشيعية؟
■ توجهي الأساسي أنني أشتغل فكرياً على العراق العربي وليس العراق الكردي، لأن
الإطار الكردي يحتاج إلى تحليل منفصل، إذ توجد هناك ملامح لدولة قائمة وعناصر
قومية ولغوية وتفاصيل تاريخية مختلفة عن بقية العراق. أما العراق العربي سواء
المحافظات الجنوبية والغربية، فهو محط اهتمامي.
المناطق الغربية مرت بوضع «غير دولتي» إذ مضت ثلاث سنوات لا توجد دولة عراقية
فيها. هناك احتلال من جماعات متطرفة، وتم تدمير البنى التحتية بشكل كامل. إذا كان
سؤالك يتناول إمكانية وجود حراك مدني هناك؟ نعم، هناك إسلام سياسي في تلك المناطق.
كل تلك المحافظات حُكمت إلى حين سيطرة تنظيم «داعش» في حزيران/يونيو 2014 من قبل
جماعات سنية سياسية لديها تمثيل في البرلمان، وكانت أيضاً في حالة صراع في ما
بينها على المصالح ولديها ارتباطات خارجية ودولية. وبالتالي في الإطار التحليلي
العام، نحن أيضاً ضمن بيئة إسلام سياسي في المحافظات الغربية ذات الأغلبية السنية
الديموغرافية. السلطة أو الجماعات الحاكمة المتنفذة في تلك المناطق لم تخرج في
التصنيف الأكاديمي عن نطاق الدين السياسي. هم كانوا يستفيدون من تسييس الدين أو
تسييس المناطقية في سبيل إعادة امتلاك الثروة والنفوذ والسلطة ولم يظهروا أي
تفاعلات إصلاحية بشأن بناء دولة المواطنة. لم يستطيعوا خلال أربعة عشر عاماً أن
يتحولوا من إسلامويين إلى إصلاحيين، أو يقدموا هيكلية أكثر ليبرالية في هويتهم
السياسية، بما يمكن أن ينقلنا إلى وضع أفضل دون المرور في حروب وتطرف وربما
احتلالات أخرى.
الجماعات السنّية السياسية تعاني من الأمراض نفسها التي تعاني منها الجماعات
الشيعية السياسية، وهي إعادة إنتاج التطرف والإرهاب والفساد. في النهاية الإطار
السوسيوسياسي العام ليس مختلفاً سوى أن المناطق السنّية ارتبطت بحركات أكثر عنفية
لأسباب تتعلق بالتهميش السياسي الذي طال تلك المناطق.
■ هل قمت بدراسة معمقة لواقع البيئة السنّية والمراحل التي شهدتها كما فعلتَ في ما
خص البيئة الشيعية، بحيث يمكن للمرء أن يفهم أكثر مكنوناتها ودينامياتها؟
■ أركّز على الإطار السيكوبوليتيكي العام للفرد العراقي. مجمل أبحاثي تتناول
التنميط العام للوضع العراقي الحالي بوصفه أسلمة سياسية، وأنا أسميه بـ»التدين
الزائف» دون تصنيفه بشكل منفصل إلى محور شيعي وآخر سنّي، مفترضاً وجود بنية نفسية
موحدة للحدث السياسي. عالجتُ سابقاً ظاهرة تنظيم «الدولة الإسلامية» وكيف سوّق
نفسه وكيف استطاع أن يسيطر على المحافظات الغربية. ذهبتُ إلى تفكيك شخصية الفرد
العراقي بوصفها نتاجاً لعملية تزييف الدين وأسلمة السياسة في العراق.
هذا هو
التنميط العام، ولكن في السنتين الأخيرتين، ازداد تركيزي على الحركة الاحتجاجية
الراهنة، لأنها بدأت تغيّر من خريطة العراق السياسية، وهو ما تضمنه كتابي الأخير
«سيكولوجيا الاحتجاج في العراق: أفول الأسلمة… بزوغ الوطنياتية».
لى موفّق:
يذهب الباحث العراقي الدكتور فارس كمال نظمي، من موقع اختصاصه في علم النفس
الاجتماعي إلى قراءة المشهد العراقي والتحولات التي يشهدها من منظار نفسي- سياسي-
اجتماعي وليس من زاوية سياسية محضة. وما يهمه هو العمل على تفكيك «التوهمات»
والظواهر في المجتمع العراقي لكي نفهمها كما حدثت وليس كما نعتقد أنها حدثت.
في
رأيه أن العراقيين كانوا ينتظرون بعد 2003 نمطاً من الحكم يجمع بين الحرية
والعدالة الاجتماعية بعد عصر من الاستبداد، لكن الأمريكيين قاموا ببناء نظام
«الأسلمة السياسية» ما أدى إلى تطاحن داخلي وإلى تفتت البلاد وغرقها في الطائفية
والتطرف والفساد.
الأستاذ الأكاديمي رأى باكراً في سياق التحليل الاجتماعي، أن الاحتجاجات قادمة لأن
الوعي السطحي بدأ يحل مكانه وعي معارض، وأصبح الفضاء العمومي في العراق مليئاً
بمفردات الاستياء والغضب، والأهم أن الناس بدأت تفكر بالبديل المغاير، ومقتنعة أن
الوضع الحالي انتهت مدة صلاحيته، وقد يطول لمدة إضافية لكنه غير قابل للاستمرار.
هو يرى أن التيار الصدري بدأ يخرج من إطار «الثيولوجيا» السياسية ويدخل في الإطار «الوطنياتي» العام، ولا يمكنه أن يستمر بالطريقة السابقة نفسها ويبقى ضمن التحالف الشيعي السياسي القائم، لأن وعي قواعد التيار تقدم إلى مستوى آخر، ما يعني أن العودة إلى خيار الطائفية السياسية من جديد قد يؤدي إلى حدوث انشقاقات كبرى داخله.
وهنا نص الحوار:
■ اشتغلتَ على الإسلام السياسي من منظور نفسي وعلى اليسار من منظور اجتماعي، هل
أنت إسلامي أو يساري الهوى؟
■ أنا يساري الهوى، لكن ليس لدي ارتباط حزبي أو سياسي. توجهي الفكري ينطلق من فكرة
اليسار كمفهوم اجتماعي أكثر مما هو سياسي. وربما هناك خلاف في العراق حول ما أكتبه
أحياناً.
كثير من الجهات التي يفترض أن تكون قريبة، تنتقدني لأنني أتحدث عن يسار
ديني مثلاً، أو عن يسار اجتماعي أو عن «يساروية» كما أسميها. أنا أحاول أن أذهب
بعيداً، وفي رأيي أن اليساروية الاجتماعية في العراق لا اليسار السياسي هي الأكثر
تجذراً. أحاول أن أعيد النظر في المفاهيم التقليدية التي استخدمت على مدى عقود من
الزمن. فالعراق مكان خصب لإعادة إنتاج المفاهيم وفق رؤى مستقاة من العلوم
الاجتماعية. وأسعى إلى أن أقدم أفكاراً ومنظورات وليس آراء.
■ أطروحة الدكتوراه قدمتها سنة 2009 تحت عنوان الهوية الوطنية العراقية وعلاقتها
بالاحتجاج، كيف استشرفت ذلك في وقت لم تكن كل تلك الظروف قد نضجت كما هي الحال
اليوم؟
■ كان عندي تصور منذ 2005 و2006 بناء على المعطيات المستقاة من التحليل الاجتماعي،
بأن الاحتجاجات قادمة. كنت أرى أن الوعي السطحي أو الزائف كما يُسمى بالتعبير
الماركسي، بدأ يتراجع في العراق وينشأ مكانه وعي معارض، وأن الثقافة السياسية بدأت
تتغير لدى الناس بعد أكثر من أربع عقود من الاستبداد والإنغلاق، وأن ثقافة الخضوع
بدأت تتحول إلى ثقافة المشاركة والمساءلة والاستياء. هذه ظواهر نرصدها بشكل محايد
على أنها مؤشرات إلى حدث قادم.
■ هل تعتقد أن المجتمع العراقي قادر على الخروج من الاصطفاف المذهبي الذي أضحى
مهيمناً على طبيعة نظام الحكم منذ بنائه سنة 2003؟
■ سأتحدث من منظور اجتماعي تحديداً لأن هناك نظريات عدة في السياسة. توجد تصورات
نمطية خارج العراق لما كان يحصل داخله، ولكني أعتقد وأنا عايشت لحظة 2003 وكنت
استاذاً في جامعة بغداد، أن مسألة الهويات الإثنية لم تكن آنذاك طاغية في
«المخيال» الاجتماعي. كان هناك شعور عام لدى العراقيين بأن عصر الاستبداد قد
انتهى، وأن هذا العصر لم يكن ممكناً التخلص منه من دون وجود قوة مسلحة عنيفة مثل
الولايات المتحدة الأمريكية، ولاسيما أنه لم تكن هناك معارضة قوية.
كان العراقيون
ينتظرون بعد 2003 نمطاً من الحكم يجمع بين الحرية والعدالة الاجتماعية، ولم يكن
أحد يتحدث عن أحزاب إسلام سياسي أو يعرف من هي، إلاّ الندرة القليلة المختصة. كان
في بال العراقيين من عامة الشعب أن رئيس الوزراء سيكون شخصاً ليبرالياً علمانياً
وله توجه أمريكي.
هذا كان أمراً متعارفاً عليه واستمر منذ نيسان/ابريل وحتى تموز/يوليو 2003. ولكن
يبدو لي أنه في هذه الفترة، اتخذت الإدارة الأمريكية قراراً آخر، هو إعادة بناء
السلطة على نمط إثني سياسي. لم تذهب إلى خيار بناء حكومة انتقالية لثلاث أو خمس
سنوات، رغم وجود مجلس خبراء شكّله الأمريكيون في حينه قبل أن يدخلوا العراق، إذ
اختاروا مجموعة من نحو 150 شخصية خبيرة في كل الاختصاصات ليمثلوا مرحلة انتقالية
ما بعد الاحتلال، لكن هذا المجلس أُلغي من قبل الحاكم الأمريكي بول بريمر، وذهبوا
إلى فكرة مجلس حكم انتقالي من 25 شخصاً (13 شيعة و5 سنّة و5 أكراد وتركماني واحد،
ومسيحي واحد) لم يتم اختيارهم على أساس الكفاءة والخبرة، بل كانوا في غالبيتهم من
دون أي خبرة وتمرّس في شؤون الدولة، ويفتقدون لفكر سياسي. في اعتقادي كان هناك
قرار أمريكي بوجوب بناء سلطة على هذه الشاكلة، والناس في لحظة الفراغ السياسي يتماهون
مع أي شيء يُقدم إليهم لأنهم بحاجة إلى أي إطار من الأمان.
هي مسألة سيكو-سياسية،
فقُدم للناس هذا الإطار وتمت عملية «تذكير» الناس بهوياتهم الإثنية وإعادة إنتاجها
على المستوى السياسي. تلك الهويات الإثنية كانت موجودة في السابق على المستوى
الديموغرافي لا السياسي.
■ في رأيك أن تلك المفاهيم الاثنية لم تكن متجذرة قبل 2003؟
■ لم يكن هناك مفهوم للشيعة بالمطلق أو السنّة بالمطلق داخل العراق قبل الاحتلال
الأمريكي على الأقل. مثلاً مفهوم الشيعة (وكذلك السنّة) أنا أفرزه إلى ثلاثة
عناصر: شيعة لاهوتية أو ثيولوجية (مراجع ومدارس)، وشيعة سياسية (الأحزاب المعارضة
التي عملت لسنوات طويلة في الخارج) وهناك الشيعة السكانية أو الديموغرافية التي
تجدين فيها الأفكار المتعددة والتنوع الثقافي. على سبيل المثال معظم الشيوعيين
خرجوا من البيئة الشيعية. ما أقصده أنه توجد توهمات. وما حاولته طيلة هذه السنوات
هو العمل على تفكيك هذه التوهمات. هناك من يرى أني قدمت شيئاً فيما يخص تفكيك هذه
الظواهر كي نفهمها كما حدثت وليس كما نعتقد أنها حدثت، فالاعتقاد شيء والحقيقة
العلمية شيء آخر.
أمريكا أتت إلى مجتمع كان ينتظرها ويعدّها محرراً، ولذا لم تحدث مقاومة داخل بغداد
وانسحبت قوات النظام واختفت تماماً، ودخل الأمريكان وخرج الناس تأييداً لهم. في
الأشهر الأولى كانوا ينتظرون، لم تكن هناك عملية «أثننة» للهويات، بل عملية بحث عن
مُنقذ بعد سنوات من الحصار والجوع والفقر والمرض.
الذي حدث أن الأمريكان قد أنتجوا
ثلاث سرديَّات أو مرويَّات في مجلس الحكم، هي اليوم متحاربة. هذه السرديَّات
استندت إلى ذاكرات تاريخية تمّ تفعيلها: ذاكرة الخلافة وذاكرة الإمامة، ذاكرة
الشيعة وذاكرة السنّة، ذاكرة الكرد وذاكرة العرب، ذاكرة الأنفال وذاكرة المقابر
الجماعية. الأمريكان هم من أسسوا علم الاجتماع السياسي ويعرفون كيف تعمل الهويات
وكيف يمكن إعادة انتاجها.
الهوية الديموغرافية يمكن أن تكون شيعية، سنية، مسيحية،
صابئية، إيزيدية، كردية الخ… هذه الهويات أعيد أنتاجها أو فُعّلت على أنها هويات
سياسية، أي تمّ اختراعها. التقنيات السياسية تستطيع أن تخلق في حالات الفراغ
السياسي مثل العراق هذا النوع من المرويّات والسرديّات والهويات.
الشيعة الديموغرافية لم يكن لديهم هَمْ في تلك اللحظة أن يُعبّروا عن أنفسهم على
أنهم الطائفة الأقوى، ولكن الأمريكيين سمحوا بوصول قادة الأحزاب السياسة الإسلامية
خصوصاً الشيعية، والعراقيون فوجئوا بالقرار الأمريكي بتأسيس مجلس حكم على أساس
إثنيات إسلاموية وليس طبقاً لإثنيات ديموغرافية. وهذا يحيلنا إلى التفكير الأمريكي
التقليدي الذي يعتقد أن التجربة الأمريكية يمكن إعادة إنتاجها ثقافياً في أي بلد
آخر.
ما فعلوه في تلك اللحظة وأعادوا تكراره في لحظات 2008 و2010 و2014 التي كان
ممكناً فيها إنقاذ الوضع، هو العمل بإصرار على تثبيت نظام «الأسلمة السياسية».
واليوم وصلنا إلى أن البلد قد تفتت ويعاني من الطائفية والتطرف والفساد.
■ ولكن أنت تتحدث في كتابك الآخير عن «أفول الأسلمة وبزوغ الوطنياتية» هل فعلاً
حصل تحول وكيف؟
■ لم تكن أحداث السنوات الأربع عشرة الماضية بين 2003 و2017 تتبع خطاً أفقياً، بل
حدثت فيها مسارات متعرجة. في السنوات الست الأولى حصلت انتكاسة، عادت الناس إلى
هوياتها ما قبل المدنية وبدأت تبحث عن تصنيفات ضيقة للذات الاجتماعية، ثم بدأ يحصل
العكس مع مرور الزمن.
الحركة الاحتجاجية، التي انطلقت سنة 2010 اشتدّ عودها في السنوات الثلاث الأخيرة.
وهي تمثل توجهاً جديداً هو توجه المجتمع وليس السلطة هذه المرة. فخلال السنوات
العشر الماضية، حصل تراكم هائل في الحرمان، وحدث أيضاً إعادة اعتبار للهوية الوطنية،
ضمن ديناميات الهويات، كإمكانية حل للخروج من الوضع المأزوم، فشكل ذلك بروزاً
لمعطى جديد. كان هناك حرية تعبير وما زالت، وإن كانت غير مضمونة ولا يحميها
القانون، كما نشأ إعلام حر ومجتمع مدني ومنظمات غير حكومية ومبادرات كثيرة، ما جعل
الفرصة متاحة أمام المواطن العراقي أن يعتقد بشيء آخر جديد.
هذا النموذج خلق
بدايات لثقافة سياسية نسميها ثقافة الإستياء والغضب والمساءلة والمشاركة. طبعاً لم
تصل إلى حد إمكانية أن تغيّر نظام الحكم غداً، لكنها نجحت إلى حد ما في أن تكون
فاعلة.
الفضاء العمومي في العراق أصبح مليئاً بمفردات الإستياء والامتعاض، والأهم
أن الناس بدأت تفكر بالبديل المغاير، هي مقتنعة أن الوضع الحالي انتهت مدة
صلاحيته، قد يطول لمدة إضافية لكنه غير قابل للاستمرار. هكذا كانت الناس تنظر
أيضاً إلى الوضع في زمن صدام حسين. أخطر عوامل التغيير في التاريخ هي عندما تفقد السلطة
أو النظام السياسي شرعيته بالكامل في أذهان الناس.
■ في رأيك هل الناس تعرف ما تريد من بدائل؟
■ الحركة الإحتجاجية مستمرة منذ تموز/يوليو 2015 وقد مضى عليها نحو 90 أسبوعاً ولم
تتوقف. كل المؤشرات التي ظهرت من تفاعل الرأي العام والفعاليات الاحتجاجية التي حدثت
والحراك الشبابي والمواقف الإيجابية للمجتمع الدولي المحايد نسبياً مثل الاتحاد
الأوروبي، تدل أن الحدث الذي تمّ صنعه في 2003 لإنتاج هويات سياسية إثنية آنذاك،
قد بدأت إعادة إنتاجه اليوم بكيفية أخرى.
الهويات الديموغرافية نفسها سواء كانت
الشيعية أو السنية وحتى الكردية وما بينها من هويات فرعية أخرى، يعاد إنتاجها
اليوم على أساس توجهين: الأول بدأ يأخذ طابعاً طبقياً، إذ شرعتْ الناس تفكر وفقاً
لثنائية الظالم والمظلوم والسارق والمسروق. والثاني أخذ يتضح عبر تكوين وعي سياسي
معارض، وإنْ كان هذا الوعي لا يمكنه التحول بـ»رمشة عين» إلى سلوك سياسي.
توجد اليوم عناصر جديدة في البيئة السياسية العراقية، أبرزها تطور الثقافة
السياسية ونشوء وعي معارض وتآكل شرعية النظام السياسي بشكل كبير في إدراكات الناس
وليس في سلوكها. فكرة المستقبل باتت تُطرح الآن.
السنوات العشر الماضية كانت جلّها
سرديات لاهوتية مُتخيلة ماضوية أدت إلى تطاحن أهلي. اليوم هناك حوار مجتمعي حول
مستقبل العدل وحرية التعبير في هذا البلد. أصبح الفضاء العمومي يمتلئ بآراء الناس.
وهناك أمل بأن التغيير أمر وارد الحدوث.
■ هل التغيير في متناول اليد، بمعنى أن هناك حركة سياسية كافية لإحداث البديل؟
■ ليس في هذه اللحظة، ولكن الطريق قد بدأ. والفرز واضح، إذ انبثقت حركة احتجاجية
ذات أساس مدني قوي. هي تتضمن أناساً علمانيين ومتدينين وحتى عرفانيين، كلهم يعملون
على فكرة واحدة هي «المواطنة»، بالإضافة إلى اشتداد «النزعة العراقوية» عند أي حدث
رياضي أو ما شابه، الأمر الذي يؤدي إلى نوع من التحفّز الداخلي بأن الهوية الوطنية
العراقية تستحق الاحترام أكثر من أي هوية أخرى فرعية.
■ كم يحتاج هذا المسار من الوقت للنضوج؟
■ انتخابات 2018 باتت قريبة، وهناك اليوم نقاش كبير لدى التيارات الإصلاحية
المدنية حول احتمال المشاركة، وما إذا هناك إمكانية لتشكيل ائتلاف فاعل ومؤثر،
يمكن أن يحقق نقلة نوعية في تركيبة البرلمان المقبلة، بعد 14 سنة من وجود تركيبة
برلمانية مقفلة على الإثنيات المتصارعة، تقاسمت كل ثروات البلد وأنتجت ما أنتجته
من فساد باستثناء تشريع بعض القوانين القليلة الجيدة الذي حدث بتأثير المجتمع
الدولي.
الاحتمال الآخر هو مقاطعة الانتخابات بالمطلق لصالح نشوء حركة معارضة خارج العملية
السياسية. حتى السنة الماضية، لم يكن أحد يفكر بالخروج من العملية السياسية، لأن
فكرة المعارضة لم تكن موجودة في التفكير العام. اليوم هناك تيار يتحدث عن ضرورة
الخروج من كل العملية السياسية في الوقت الحاضر من دون رفع السلاح إنما بشكل سلمي،
تحضيراً لانتخابات سنة 2022. في الحالتين لا يمكن التنبؤ بمسارات الأحداث تفصيلياً
في هذه اللحظة.
■ المراقب يرى أن الرافعة الحقيقية للحركة الاحتجاجية هي تيار مقتدى الصدر،
وبالتالي فهذا يعني الاتكاء على رافعة بتوجهات دينية؟
■ أعتقد أن كل الحركات السياسية هي في النهاية جسم اجتماعي ولا يوجد شيء جامد. انا
أفهم التاريخ على أنه ليس حركة خارجية ظاهرية بل يجب العمل على الجزئيات وفهمها
والتحكم فيها. العراق وضع معقد ومتداخل جداً، وعانى منذ 50 سنة من أزمات ثقافية
وإيديولوجية وسيكولوجية فضلاً عن الأزمات السياسية والاقتصادية والحربية. راهناً،
نحن بحاجة إلى تفكيك هذا الوضع. ما أراه أن جزءاً من التحالف الشيعي السياسي (أي
التيار الصدري) بدأ يعيد إنتاج نفسه بحيث يمثل نزعة «عراقية وطنياتية» ويعزى ذلك
جزئياً إلى نظرة الاستعلاء والاستصغار التي يُنظر بها إلى الصدريين داخل الإطار
الشيعي السياسي.
هذه النظرة ليست جديدة، إنما تنامت في السنوات الأخيرة بفعل عوامل
طبقية نتيجة الحرمان والحيف المتزايد الذي يشعرون به، لاسيما أن الحركة الصدرية
كانت منذ بداياتها حركة شعبية، ونتيجة تزايد الوعي بأن الزعماء الشيعة هم الذين
أسهموا في سرقة شيعة العراق. التمايزات ذات الطابع الطبقي بقيت موجودة، وقاعدة
التيار الصدري لم تتحول إلى طبقة وسطى ولم يسعفها أحد، كما لم يحدث تغيير في
البنية السوسيو- اقتصادية للشيعة الديموغرافية بما يجعلهم على وئام مع الشيعة
السياسية. كل الذي حدث أن أربع عشرة سنة من إعادة إنتاج الفقر والظلم والحرمان
باتت تعطي اليوم طابعاً طبقياً و»عراقوياً» للحركة الصدرية، لأن المحروم عندما
يُذكّر بمحروميته، فإنه يلجأ نفسياً إلى أقرب هوية توفر له القوة والهيبة.
ولذلك أرى أن الحركة الصدرية بدأت تخرج من إطار الثيولوجيا السياسية وتدخل في
الإطار الوطنياتي العام. كمراقبين نقول: إذا كان هذا الأمر سيخلق حركة معارضة
ويعمل على تفكيك الطائفية السياسة فليكنْ، أما إذا كان ذلك لن يستمر لأي سبب آخر،
فكل حادث حديث.
■ في تقديرك هل يريد التيار الصدري الخروج فعلياً من المحاصصة والطائفية السياسية؟
■ لا يمكن للتيار الصدري أن يستمر بسياساته السابقة نفسها بأن يبقى ضمن الإطار
التقليدي كتحالف شيعي سياسي يضم مجموعة أحزاب متمذهبة رئيسية، لأن الوعي السياسي
لقواعد التيار قد تقدم إلى مستوى آخر. وبالتالي فإن العودة إلى خيار الطائفية
السياسية من جديد قد يؤدي إلى حدوث انشقاقات كبرى داخله، وهو أمر تريد قيادة
التيار أن تتجنبه لحرصها على أن تبقى تمارس التأثير على أتباعها. فهناك ضرورات
مجتمعية وديناميات سياسية هي التي تخلق القرار. وإن أي تراجع عن الخروج من
الطائفية السياسية سيؤدي إلى انتحار سياسي، وهم يدركون ذلك.
■ هل تشمل قراءتك السيكو- اجتماعية مختلف مكونات المجتمع العراقي، واقع المحافظات
السنية وواقع الأكراد، أم أنها تركز أكثر على البيئة الشيعية؟
■ توجهي الأساسي أنني أشتغل فكرياً على العراق العربي وليس العراق الكردي، لأن
الإطار الكردي يحتاج إلى تحليل منفصل، إذ توجد هناك ملامح لدولة قائمة وعناصر
قومية ولغوية وتفاصيل تاريخية مختلفة عن بقية العراق. أما العراق العربي سواء
المحافظات الجنوبية والغربية، فهو محط اهتمامي.
المناطق الغربية مرت بوضع «غير دولتي» إذ مضت ثلاث سنوات لا توجد دولة عراقية
فيها. هناك احتلال من جماعات متطرفة، وتم تدمير البنى التحتية بشكل كامل. إذا كان
سؤالك يتناول إمكانية وجود حراك مدني هناك؟ نعم، هناك إسلام سياسي في تلك المناطق.
كل تلك المحافظات حُكمت إلى حين سيطرة تنظيم «داعش» في حزيران/يونيو 2014 من قبل
جماعات سنية سياسية لديها تمثيل في البرلمان، وكانت أيضاً في حالة صراع في ما
بينها على المصالح ولديها ارتباطات خارجية ودولية. وبالتالي في الإطار التحليلي
العام، نحن أيضاً ضمن بيئة إسلام سياسي في المحافظات الغربية ذات الأغلبية السنية
الديموغرافية. السلطة أو الجماعات الحاكمة المتنفذة في تلك المناطق لم تخرج في
التصنيف الأكاديمي عن نطاق الدين السياسي. هم كانوا يستفيدون من تسييس الدين أو
تسييس المناطقية في سبيل إعادة امتلاك الثروة والنفوذ والسلطة ولم يظهروا أي
تفاعلات إصلاحية بشأن بناء دولة المواطنة. لم يستطيعوا خلال أربعة عشر عاماً أن
يتحولوا من إسلامويين إلى إصلاحيين، أو يقدموا هيكلية أكثر ليبرالية في هويتهم
السياسية، بما يمكن أن ينقلنا إلى وضع أفضل دون المرور في حروب وتطرف وربما
احتلالات أخرى.
الجماعات السنّية السياسية تعاني من الأمراض نفسها التي تعاني منها الجماعات
الشيعية السياسية، وهي إعادة إنتاج التطرف والإرهاب والفساد. في النهاية الإطار
السوسيوسياسي العام ليس مختلفاً سوى أن المناطق السنّية ارتبطت بحركات أكثر عنفية
لأسباب تتعلق بالتهميش السياسي الذي طال تلك المناطق.
■ هل قمت بدراسة معمقة لواقع البيئة السنّية والمراحل التي شهدتها كما فعلتَ في ما
خص البيئة الشيعية، بحيث يمكن للمرء أن يفهم أكثر مكنوناتها ودينامياتها؟
■ أركّز على الإطار السيكوبوليتيكي العام للفرد العراقي. مجمل أبحاثي تتناول
التنميط العام للوضع العراقي الحالي بوصفه أسلمة سياسية، وأنا أسميه بـ»التدين
الزائف» دون تصنيفه بشكل منفصل إلى محور شيعي وآخر سنّي، مفترضاً وجود بنية نفسية
موحدة للحدث السياسي. عالجتُ سابقاً ظاهرة تنظيم «الدولة الإسلامية» وكيف سوّق
نفسه وكيف استطاع أن يسيطر على المحافظات الغربية. ذهبتُ إلى تفكيك شخصية الفرد
العراقي بوصفها نتاجاً لعملية تزييف الدين وأسلمة السياسة في العراق.
هذا هو
التنميط العام، ولكن في السنتين الأخيرتين، ازداد تركيزي على الحركة الاحتجاجية
الراهنة، لأنها بدأت تغيّر من خريطة العراق السياسية، وهو ما تضمنه كتابي الأخير
«سيكولوجيا الاحتجاج في العراق: أفول الأسلمة… بزوغ الوطنياتية».