Friday, August 31, 2018

الحزب الشيوعي العراقي وأزمة الهوية الايديولوجية..! مقاربة سيكوسياسية The Iraqi Communist Party and its Ideological Identity Crisis: A Psycho-Political Approach


Guest Contributor, Dr. Faris Kamal Nadhmi, founding President of the Iraqi Association of Political Psychology, and author of numerous books and articles, is one of the most astute analysts of the dynamics of contemporary politics and politicized religion in Iraq.  The New Middle East is pleased to publish his article: “The Iraqi Communist Party and its Ideological Identity Crisis: A Psycho-Political Approach.”

فارس كمال نظمي
Faris K. Nadhmi

كتب "أنطونيو غرامشي" في مذكرات السجن: «إن كل أزمة تقوم بدقة على حقيقة أساسية مفادها أن القديم يحتضر، والجديد تستعصي عليه الولادة. وضمن هذا الانقطاع بين القديم والجديد، تظهر كمية هائلة من الاعتلالات».

هذا المنظور يرى في الأزمة - الفكرية خاصةً- مفهوماً جدلياً يتضمن الإيجاب والسلب، أي حالة إشكالية تستدعي تفاعلات، يمكن أن تولّد حلولاً منتجة إذا ما أُحسن إدارتها. ويبدو أن أقدم الأحزاب العراقية الحية وأكبر تنظيماتها اليسارية (أي الحزب الشيوعي العراقي) بات اليوم يعايش أزمة من هذا النوع تخص تحديد هويته الايديولوجية أو إعادة تعريفها، ما عاد يمكن إنكارها أو تجنب الخوض فيها مثلما حدث في مراحل سابقة، إذ تتلخص في الإشكالية الماثلة: «هل يمكن إعادة إنتاج مفهوم الشيوعية بكيفيات/ ممارسات جديدة دون المساس بجوهرها القيمي الغائي؟».

وقبل تقديم أي تحليل لديناميات هذه الأزمة التي تعدّ ظاهرة مألوفة في أي حزب عقائدي تتفاعل فيه أجيال متعددة، يجدر الإشارة أولاً إلى تمظهرها الحالي الحاد. فقد تعرّضت قيادة الحزب الشيوعي قبل أيام إلى حملة مضادة شديدة اللهجة من بعض قواعد الحزب، ومن بعض أصدقائه، ومن مدنيين ويساريين بتوجهات مختلفة، في داخل العراق وخارجه، بسبب قرار السيد مقتدى الصدر في 13 حزيران 2018م بإعلان التحالف المفاجئ بين كتلة "سائرون" التي يتبناها سياسياً (والشيوعيون جزء منها مع الصدريين وأحزاب مدنية مدنية أخرى) وبين كتلة "الفتح" الموصوفة بالطائفية السياسية والتبعية لقوى إقليمية. 

وكان الاتهام الموجه في هذه الحملة إلى قيادة الحزب يتركز إجمالاً حول "ترددها" أو "تخاذلها" أو "لا مبدأيتها" لأنها لم تقرر الانسحاب الفوري من كتلة "سائرون" بعد إعلان هذا التحالف. وفي حالات أخرى اتسع الاتهام ليشمل أيضاً قرارها السابق بالتحالف مع الصدريين، بما يعنيه - في منظور المناوئين له- من "تفريط" بالمبادئ العقائدية حول "استحالة" التنسيق السياسي بين علمانيين ودينيين، وحتى بالمبادئ الوطنية المتعلقة بالتصدي للطائفية والفساد الإسلامويينِ. وفي المقابل، بادر بعض الحزبيين من أنصار القيادة إلى توجيه الاتهامات إلى المنتقدين بسبب "خرقهم" للانضباط الحزبي وتعريض التنظيم إلى "خطر" التفكك و"تشويه" السمعة. وبين هذا وذاك ظلت نخب أخرى -ليست مسموعة الصوت بما يكفي- من الطرفين تمارس النقد الهادئ وتقديم المناشدات الإقناعية دون الولوج في عبارات التخوين والتسقيط السياسي. 

تمثل هذه المكاشفات المتضادة نوعاً من شفافية غير مسبوقة في تاريخ الحزب الشيوعي وعموم الأحزاب العراقية المؤطرة أيديولوجياً بقوة. كما إنها تعبّر عن تراجع مهم في نزعة "القداسة" العقائدية، ما يقدم مؤشراً دالاً على تنامي الصحة النفسية السياسية في صفوف هذا الحزب واصدقائه بغض النظر عن فحوى الأزمة وتداعياتها ومآلاتها.

وبعيداً عن التقييمات المعيارية (خطأ- صواب) أو الأخلاقية (خيانة- أمانة)، تسعى هذه السطور لتقديم تحليل ذي رؤية سيكوسياسية للأزمة الحالية ضمن بنية الحزب نفسه الموزعة بين قيادته وقواعده وأصدقائه، دون الخوض في مواقف يساريين ومدنيين آخرين مارسوا موقفاً ناقداً للحزب أيضاً إذ يتطلب ذلك تحليلاً منفصلاً. كما يجدر التنويه أن ما يُقصد بالقيادة هو العقل الجماعي النهائي الذي يضع السياسات ويتخذ القرارات دون إغفال وجود خلافات وتباينات وحتى صراعات فكرية وشخصية بين أعضاء القيادة أنفسهم. 

إن هذه المقاربة المختصة بالأزمة الحالية لا تعني إغفالاً لواقعة أن الحزب الشيوعي العراقي وبقية الحركات اليسارية في العراق ما برحوا يعانون من اعتلالات أخرى مزمنة -ذاتية وموضوعية- متنوعة في الايديولوجيا والتنظيم، لكن لا المقام لا يختص بمناقشتها هنا.

الشيوعية: سردية صنمية أم فكر اجتماعي متطور؟!

بسبب الذاكرة السياسية الرومانتيكية لأعداد مهمة من أعضاء الحزب الشيوعي ومناصريه، بما تحتويه من سرديات تاريخية عن عوالم بلشفية مُنتظرة، فإن العقبة الرئيسة التي تواجه قيادته حالياً هي في أنها باتت تدرك ميدانياً أن التعويل على هذا الرصيد النوستاليجي المؤدلج لن يفلح في تحقيق استثمارات سياسية ناجعة تحقق لها مكانة وفاعلية وسط بيئة سياسية ملوثة بأعلى درجات الفساد السياسي والأنوميا المجتمعية والرثاثة الدولتية والتفكير الأساطيري والتدخلات الدولية والإقليمية الهدمية، فضلاً عما يحيط بالشيوعيين من خطر الاستهداف والتصفية وسط مناخ ديني متطرف يسهل فيه التكفير وهدر الدماء بمسميات فقهية "مقدسة".

إلا أن هذا الإدراك المستحدث ما يزال في طور التكوين التدريجي غير المكتمل، بعد عقود مارس فيها الحزب حشر الماركسية في نصوص مدرسية تتسم بالتبسيط اللفظي بدل التأصيل التنظيري، متأثراً كغيره بالتنميط السوفييتي للماركسية، دون أن يلغي ذلك تاريخاً رسالياً فريداً من سيكولوجيا الأمل والإيثار والزهد والنخبوية التي انفرد بها الشيوعيون في العراق، السياسيون منهم والاجتماعيون، طوال أكثر من 80 عاماً. 

وقد أخذ هذا الإدراك المتنامي يتمايز بدرجات مختلفة من القبول أو الرفض لدى أعضاء القيادة بحسب خلفياتهم العقائدية والنفسية؛ فليس معلوماً بعد مدى الانتظام في فاعليته ليحقق تطوراً حقيقياً في الوظيفة التأثيرية للحزب في البيئة السياسية العراقية خلال المراحل القادمة، خصوصاً أنه ما يزال - أي هذا الإدراك- يعبّر عن طروحاته بصيغة خطاب متردد لم تستقر بنيته الفكرية بعد.

فقد شرعت القيادة - تحديداً في السنوات الثلاثة الأخيرة بعد اندلاع موجة الاحتجاجات أواسط 2015م- باتخاذ مسارات عملية تكيفية متدرجة وسط بيئة محافظة أدمنت على إنتاج الخضوع بمسميات لاهوتية، ساعية أن تجعل من الشيوعية فكرة يساروية اجتماعية مطلبية قابلة للتحقق بكيفيات مرنة متنوعة السيناريوهات في المدى البعيد، بدل كونها أيديولوجيا ذات حتمية مُتَخيلة تنتظر ساعة الانقضاض الثوري على السلطة "القيصرية". فاتخذت قراراتها بالتقارب مع حركة إسلامية ذات قاعدة اجتماعية محرومة واسعة (التيار الصدري) في ساحات الاحتجاج، ثم التحالف معها فيما بعد في قائمة انتخابية واحدة، سعياً لإعادة الصلة بتلك القاعدة التي انفصلت عن الحزب الشيوعي بفعل حقبتي الاستبداد البعثي والإسلام السياسي، بما يمكن أن يسهم في منحها وعياً سياسياً متقدماً عبر "الفعل الاتصالي" - بتعبير هابرماس- وجعلها جزءً من "هيمنة ثقافية" -بتعبير غرامشي- جديدة للانتقال بالبلاد من بنية الإثنيات السياسية المتصارعة ما دون الوطنية إلى بنية المواطنة والوطنياتية. 

هذه النزعة التكيفية في تاريخ الحزب الشيوعي ليست جديدة، بل مزمنة، تستمد أسبابها من مصدرين ذاتي وموضوعي. فالطابع العقلاني التفاؤلي العام للفكر الماركسي - دون الخوض في أنماط استيعابه داخل الحزب- ظل يوفر دافعاً ذاتياً للتفتيش عن وسائل للبقاء تتضمن إعادة الهيكلة التنظيمية والايديولوجية وما يتبعها من قرارات سياسية مصيرية، ما دام الوصول إلى الغايات "الأخلاقية" لن يمر بخط سكوني مستقيم بل بتعرجات اجتهادية تعمل ضمن مبدأ نقض النقيض. 

أما المصدر الموضوعي فيتمثل ببقاء الحزب طوال تاريخه (تأسس 1934م) وحتى اليوم، في موقف المعارضة لكل الأنظمة الحاكمة التي عايشها، ما عزز لديه ميكانزمات المواءمة السياسية لحفظ النوع بتأثير العوامل الظرفية القاسية من جهة؛ فضلاً عن قوة القيم العدالوية في المجتمع العراقي – دينياً وطبقياً- من جهة أخرى، والتي ظلّت تمثل حاضنة نسبية لأفكاره - حتى في المدن الدينية- على الرغم من كل أشكال القمع التصفوي المبرمج الذي تعرضت له بنيته المادية بما فيها الجسدية.

هذا المسار التجديدي النسبي منذ 2015م كان يعني بالضرورة انتقالاً تدريجياً لمفهوم الشيوعية من كونها عقيدة نصيّة تستند حصراً إلى فلسفة مادية تاريخية حتموية تؤمن بالصراع الطبقي والتطور الجدلي لعلاقات الإنتاج وفقاً لمبدأ صراع الأضداد الذي يحكم تطور قوى الإنتاج وصولاً إلى تحقيق المجتمع الشيوعي حسب مبدأ "من كل حسب قدرته ولكل حسب حاجته"، إلى كونها فلسفة ممارسة عملية (براكسيس) Praxis مرنة - دون إلغاء جذرها المادي التاريخي- تتعامل مع وسائل السياسة والاقتصاد والثقافة بوصفها أدوات علمية احتمالية للتغيير، وليست معتقدية جازمة، يمكن أن تحقق تدريجياً نسقاً اشتراكياً للوجود الاجتماعي تتوفر فيه معايير نسبية -لا مطلقة- للعدالة والحرية والديمقراطية والكرامة، دون الحديث عن تصورات نهائية لعالم شيوعي بعينه ينتظرنا حتماً.

وليس في هذا الانتقال ما يتناقض فلسفياً مع الماركسية، بل أنه يتطابق مع أطروحة "كارل ماركس" الثانية حول فيورباخ: «إن معرفة ما إذا كان التفكير الإنساني له حقيقة واقعية ليست مطلقاً قضية نظرية، إنما هي قضية عملية؛ ففي النشاط العملي ينبغي على الإنسان أن يثبت الحقيقة، أي واقعية وقوة تفكيره ووجود هذا التفكير في عالمنا هذا. والنقاش حول واقعية أو عدم واقعية التفكير المنعزل عن النشاط العملي إنما هو قضية كلامية بحتة». وكل ذلك يشير بالضرورة أن الحزب الشيوعي -فكراً وتنظيماً- بات اليوم في مرحلة تغيير بنيوي، سوف تستدعي بالضرورة تأزمات فكرية وتنظيمية مستمرة بين فريقٍ يتبنى الشيوعية بوصفها توجهاً أيقونياً/ يوتوبياً، وفريق يتبناها بوصفها توجهاً عِلموياً قائماً على فلسفة الممارسة العملية. 

كنت قد كتبت في مرة سابقة أن مدى قدرة الحزب الشيوعي على الاحتفاظ بفاعليته السياسية ترتبط بمدى قدرته - أو عجزه- عن تغليب الطابع اليساروي الاجتماعي للشيوعية في بنائه التنظيمي ووظيفته الفكرية التغييرية للمجتمع، وسط ظروف عراقية وإقليمية عسيرة. وتساءلتُ حينها ومعي كثيرون: «هل ما يزال الحزب مالكاً لرأسمال اجتماعي كاف يوفر له دوراً مؤثراً في الحياة السياسية؟ أم تحوّلَ إلى مجرد سردية أخلاقوية توفر إشباعاً نفسياً آنياً لأعضائه ومؤيديه؟!». وأوضحتُ أن الإجابة عن هذا السؤال المركب ليست يسيرة ولا جاهزة ولا جازمة، بل إن الخوض فيها هو نوع من نشاط فكري جدلي متعدد المستويات، يمكن أن يطلق حواراً غنياً وواعداً لتنشيط مجمل الحراك اليساري في العراق. 

وهذا ما يتضح اليوم بالفعل، ولكن في أجواء متشنجة تعلو فيها عبارات الانتقاص والتخوين والتأثيم، إنطلاقاً من مرجعيات لفظية مغلقة دون محاججات نظرية منفتحة، بعكس ما يفترض أن تتسم به التقاليد الماركسية من تنقيب متريث ومتعمق في جدليات التطور الاجتماعي ومساراته.

ما الخلفية السيكوسياسية للمعارضين؟

إن أعداداً مهمة اليوم من الشيوعيين وأصدقائهم صاروا يذهبون إلى التشكيك وحتى الاتهام، في أن نزعة القيادة الحالية نحو تغليب الممارسة العملية الاحتمالية، على التنظير الجاهز "الآمن"، إنما يخفي في طياته خفوتاً - أو ربما انطفاءً وتخاذلاً- في النزعة الأخلاقية "الطهرية" و"العصامية" التي اعتاد أن يصف الشيوعيون أنفسهم بها دوماً. وهم في ذلك يتجنبون المجادلة في حقيقة أن الطريق إلى الخطيئة كم مرةً كان يمر بمسارات دوغماتية معمّدة بالنوايا الحسنة، وكم مرة أدى تجريبُ الممارسات الاحتمالية إلى نتائجَ فاضلة.

ومن هنا يمكن تحديد الجذر السيكولوجي للأزمة الحالية التي تواجه هذه القيادة في علاقتها ببعض قواعدها وأصدقائها المعارضين. فهؤلاء المعارضون (ممتعضون وناقمون) يمكن تصنيفهم مكانياً إلى بيئتين، وعمرياً إلى جيلين، وهو تصنيفي عمومي لا يخلو من تداخلات فرعية ومن تبسيط لأغراض التوصيف.

فالشيوعيون الممتعضون وأصدقاءهم داخل العراق - يشكل بعض الشباب الراديكالي المحافظ جزءً منهم، أي جيل ما بعد 2003- لطالما كانوا يبدون انحيازاً - أو ولاءً- وجدانياً لحزبهم بوصفه رمزاً أخلاقياً لا تمسّه الخطيئة (سرديات متوارثة)، له وظيفة إشباع حاجتهم لرمز يتماهون به ويستعيرون هويته. أما الجانب الفكري فيبدو أقل أهمية بالنسبة لهم إلا إذا كانت الأفكار تحقق إشباعاً عاطفياً لهم. وارتبط كل ذلك لديهم بضعف روح المثابرة المستقبلية، وبالاندفاعية في الاستجابة للأحداث، وبالتأثر السلبي بآراء الآخرين الناقدة لسياسة الحزب إلى حد الجزع أو فقدان الثقة بالنفس أحياناً.

وقد عبّروا في الأزمة الأخيرة عن صدمتهم وخيبتهم بشكل علني وفوري في مواقع التواصل الاجتماعي من موقف قيادتهم، إذ كانوا ينتظرون منها موقفاً حدياً بمقاطعة الصدريين فوراً، وإيقاف مشروع التحالف معهم والذهاب منفردين إلى أي شكل من أشكال المعارضة، دون السعي لإقامة حوار استقصائي داخلي أو النظر إلى الأزمة بوصفها معطى سياسي مركب يتطلب التمحيص والتحليل والتأويل والنقد وصولاً إلى إقامة تصورات جماعية يتطلبها العمل الحزبي. 

فهؤلاء يرون -لا شعورياً- في الشيوعية "أيقونة" تطهرية مغلقة الأسرار لا يرقى إليها الشك، لكنهم ما أن يجدوا أن "حرّاس" هذه الأيقونة يتصرفون على نحو أقل "قدسية" مما كانوا يظنون، حتى يعلنون امتعاضهم من الحرّاس"المتخاذلين" لتظل الأيقونة "طاهرة" في مخيالهم، دون أن يعني ذلك موقفاً نهائياً إذ تظل تراودهم مشاعر تأنيب الضمير بسبب ما أعلنوه من "تمرد". هذا ما يمكن تسميته بـ"التوجه الأيقوني"، الذي تشير كل الملاحظات الميدانية أنه يوفر إشباعات/ توترات نفسية لأصحابه، إذ يتصفون بنزعتهم المتذبذبة للاحتماء بما هو "مقدس" ما يجعلهم مترددين بين الامتعاض تارة والقبول تارة أخرى، وهذا يقلل من تأثيرهم الفعلي في مجرى الأحداث السياسية العامة. 

أما الشيوعيون الناقمون وأصدقاءهم خارج العراق - وجلّهم من جيل ما قبل 2003م - فإنهم يمثلون جيلاً كفاحياً كاملاً قضى أكثر من خمسة عقود في العمل السياسي والمسلّح في صفوف الحزب أو قريباً منه، معايشاً الصورة "الاستشهادية" التي التصقت بشخصية الفرد الشيوعي. ولذلك فإن مخيالهم الايديولوجي لا يحيد عن صورة "الطهرية العفافية" و"النقاء الفكري المطلق" التي "يجب" أن يتحلى بهما الحزب في كل الظروف والمواقف والمستجدات. وهم في أماكن عيشهم المستقرة والبعيدة، ينتظرون من أقرانهم في الداخل المضطرب أن يحققوا توقعاتهم المثالوية هذه، بتقديم مواقف "بطولية" بوصفهم مجموعة من الرفاق المستعدين بالضرورة للتضحية بحياتهم، ممن لا يمكن أن "يتلوثوا" باحتمال العمل السياسي المشترك مع آخرين من ايديولوجيات مخالفة (الإسلاميين تحديداً)، دون الأخذ بالاعتبار نسبيات المكان والزمان ودرجة الوعي المجتمعي ونوع السلطة وصنف التحديات وجسامة الأخطار وطبيعة الصراع السياسي وحجم الإمكانات الذاتية. 

وحينما يتم "خرق" كل هذا -في منظورهم-، فإن بعضهم يعزوه إلى "خيانة" الأمانة، والبعض إلى "التفريط" بتاريخ الحزب وحقوق الشعب، إلى جانب عوامل نفسية ذاتية تتصل بخصومات شخصية قديمة تظل حيّة في الوجدان والتفكير في بعض الحالات. فالتطبيق البراكسيسي الاحتمالي لمفهوم الشيوعية يسرق منهم إلى الأبد طمأنينة التحديق الآمن بلوحة "فاضلة" تشتبك فيها قوى التقدم المطلقة بقوى الرجعية المطلقة دون أي تداخل بالخنادق، ويفتح في الوقت نفسه لديهم أبواباً عقلية مقلقة ومربكة عن احتمالاتٍ غير بطولية بالضرورة، لن يمكن إغلاقها بعد اليوم. 

وهذا ما يمكن تسميته بالتوجه اليوتوبي، الذي يضع أصحابه دوماً في موقف "امتلاك الحقيقة الوحيدة" تعويضاً عن مغادرتهم للدور السياسي الفعلي، إذ يوفر ذلك لهم "زهوَ" الدفاع عن عالم فاضل حتى وإنْ لم يعد بمقدورهم الإسهام في الوصول إليه. وهم في ذلك يقفون أيضاً خارج التأثير الفعلي في مجرى الأحداث السياسية العامة. 

ما المآلات المحتملة للأزمة؟!

مما تقدم تتضح حالة التأزم الناتجة عن المحاولة الضمنية غير المعلنة لقيادة الحزب الشيوعي، لإعادة تعريف الهوية الشيوعية بوصفها ممارسات براكسيسية تسعى إلى نمطٍ من ديمقراطية اجتماعية رشيدة دون الحديث عن تصور محدد لمجتمع شيوعي بعينه، في مقابل تعريفين سابقين منافسين أحدهما أيقوني والآخر يوتوبي، يستندان إلى تنميطات ايديولوجية ثابتة ذات طابع حتموي. 

فهل يستدعي ذلك ضرورة آنية أو مستقبلية للتخلي عن عنوان "الشيوعية" وإعادة هيكلة الحزب وفق تسمية أخرى ومنهج نظري يتفق مع توجهه الاشتراكوي الحالي؟ أم إن الأمر سيستدعي انشقاقات بنائية تمنح الجميع حق التأويل الايديولوجي للهوية الحزبية وفق منظورات متباينة يحقق كل منها استقلاليته التنظيمية؟

وإذا حدث تراجع آني في الأزمة الحالية لأي سبب سياسي يتعلق بمواقف جديدة تتخذها القيادة أو سعياً لإرضاء وتطمين المعارضين، فهل سيكون ذلك مدخلاً لإنهاء الخلاف؟ أم إن ذلك لن يكون إلا معالجة مؤقتة تنتظر تجدد الأزمة مرة أخرى بصيغ مماثلة أو مختلفة مستقبلاً، ما دام الخلاف حول الهوية الأيديولوجية للحزب دخل مرحلة انتظار الحسم مهما طال أمدها؟ 

لا يمكن تقديم رؤية محددة أو نهائية بهذا الشأن في هذه اللحظة المتأزمة من التاريخ الفكري للحزب الشيوعي العراقي. كما لا يمكن التنبؤ الجازم بأي المواقف ستكون له أرجحية الـتأثير في قادم الأيام، إذ أن القيادة نفسها تضم استقطابات متباينة غير محسومة في اتجاه نهائي محدد لا رجعة عنه. فالمآلات ستظل مفتوحة على احتمالات متعددة حسب مخرجات الأزمة الحالية، وحسب تماسها الجدلي بمجمل التطور السياسي في العراق. 

إلا أن المؤكد هو أن هذا الحزب قد دخل مرحلة الحراك الفكري الحيوي باتجاه التغيير، وأنه أصبح هو الآخر تحت رحمة قانون الديالكتيك «التراكمات الكمية تؤدي إلى تحولات نوعية». فهل ستعينه نزعته التكيفية المزمنة على اجتراح مقاربات توفيقية تدمج الأيقوني واليوتوبي في بنيته البراكسيسية المتنامية، على نحوٍ تجديدي يؤهله- في مدى زمني غير قصير- للتحول من حزب هرمي ولائي نصوصي ماضوي العاطفة بيروقراطي التنظيم، إلى حزب أفقي حواري مستقبلي النزعة كارزماتي الـتأثير، دون أن يفقد شغفه بحلم الشيوعية "المنتظرة"؟!

Tuesday, August 28, 2018

الشيعة العراقية السكانية وعرقنةُ الصراع السياسي مقاربة لديناميات الموجة الاحتجاجية الرابعة The Iraqi Shia and the Iraqization of the Political Conflict: The Dynamics of the Fourth Wave Protests


Guest Contributor, Dr. Faris Kamal Nadhmi, founding President of the Iraqi Association for Political Psychology, is one of the most astute analysts of the changing dynamics of Iraqi politics.   The New Middle East is pleased to publish his article, "The Iraqi Shia and the Iraqization of the Political Conflict: The Dynamics of the Fourth Wave Protests."
د. فارس كمال نظمي 

«
هل هو التاريخ الاجتماعي يتحرك اليوم في وسط وجنوب العراق بفعل التراكمات السوسيوسياسية المجحفة بما يرافقها من آلام التغيير المولود من رحم الإحباط المزمن والقطيعة النفسية التامة بين الفرد والدولة الفاشلة؟ أم هي مؤامرة تقودها قوى "غامضة" تريد تقويض بنى الدولة "المستقرة" عبر "الاندساس" بين المحرومين المحتجين لتحريضهم على النيل العنفي من المحمولات الرمزية للسلطة، طبقاً لخطاب السلطة نفسها؟».

هذا السؤال  -بتنويعاته المتعددة- صار يتصدر اهتمامات الفضاء العمومي في العراق في ضوء الاحتجاجات العميقة التي تشهدها المحافظات الجنوبية والوسطى منذ 8 تموز 2018م وحتى اليوم، للمطالبة بتوفير الكهرباء والماء الصالح للشرب وفرص العمل وتحسين الواقع الخدمي والمعيشي المأساويين، عبر تظاهرات واعتصامات يومية ذات طابع سلمي سائد، تخللتها ممارسات عنفية محدودة في بعض الحالات كحرق مقراتٍ لبعض الأحزاب الإسلامية، ومهاجمة محدودة لبعض الأبنية الحكومية، رافقها سقوط قتلى وجرحى بأعداد تفوق بشكل كبير ما حصل في احتجاجات سابقة، بسبب العنف المفرط - كمياً ونوعياً- الصادر عن القوى الأمنية وعن تنظيمات مسلحة مرتبطة بالأحزاب الإسلامية.

موجات احتجاجية تلد بعضها
يأتي هذا السؤال المطروح قبل قليل في لحظة سياسية مركبة، غامضة، وطافحة بالطروحات التحليلية الاحتمالية والتأويلات الوجدانية غير المستقرة. فالإحاطة الفكرية الدقيقة تتطلب تحليلاً يحيط بكل معالم ومعطيات اللحظة العراقية الراهنة في إطار جدلي لا يغفل وجود صراع سياسي مرير على السلطة في بلد تتنازعه مراكز قوى مسلحة وشبكات زبائنية شرسة، مثلما لا يغفل وجود ديناميات احتجاجية محركة لمجتمع تزدهر فيه مشاعر اليأس والثأر السياسيينِ، وتحركه أيضاً نزعة احتجاجية سلمية جوهرها دافع الأمل، في آن معاً.

فما يزال أحد المحفزات الأساسية لمزيد من موجات الاحتجاج المستجدة والقادمة، هو العجز/ الانغلاق الذي ما برح النظام السياسي الحالي يبديه منذ تأسيسه في 2003، نحو ممارسة أي إصلاحات ذاتية تمكّنه من استيعاب التذمر المجتمعي المتصاعد على نحو احتجاجي أصبح أكثر اتساعاً وجذرية منذ 2010.

وهذا يستدعي إعادة الاستعانة بالفرضية ذاتها التي انطلقتُ منها لتحليل ديناميات الاحتجاج قبل ثلاث سنوات: «إن سلطة الأسلمة السياسية الحالية في العراق تعدّ بنية مغلقة غير قابلة للإصلاح الذاتي من داخلها، وهي تفترس نفسها بنفسها، دون أن تتمكن من الاستفادة والتعلم من أي تجارب سياسية أو آليات ديمقراطية مرّت بها، إذ يعزى ذلك إلى نزعتي الاستبداد والفساد اللتين تغلغلتا فيها حد التجذر النهائي». ولذلك لا يُنتظَر من هذه الموجات الاحتجاجية المتواصلة أن تنجح في إقناع نظام عاجز ومغلق بتقديم ما هو مفتقد إليه كلياً ونهائياً، بل يرتجى منها أن تسهم في التأسيس لمرحلة ما بعد هذا النظام.

إن أي مسعى علمي لدراسة أنساق الاحتجاجات العراقية في السنوات الأخيرة، لا بد أن يتضمن تنقيباً في ظواهر متزامنة ومتفاعلة جدلياً في السلوك السياسي للفرد العراقي، منها تنامي الوعي بالحرمان الاجتماعي والفساد السلطوي، وازدياد مشاعر الإحباط واليأس والاغتراب السياسي، وبزوغ ثقافة سياسية تتبنى الاعتراض والمساءلة، وتراجع في الوعي الزائف بوجود "صراعات" هوياتية تستدعي تبرير وجود النظام السياسي الحالي، وبروز عقلاني جزئي لنزعة عراقوية باحثة عن إعلاء الذات الجمعية.

وكل ذلك يستدعي بالضرورة إيجاد مقاربات مفاهيمية تتقصى الصلة النشوئية التواصلية للموجات الاحتجاجية المستمرة منذ 2010م، والتي يجمعها معيار مكاني وديموغرافي متشابه، إذ حدثت جميعاً في المحافظات الوسطى والجنوبية ذات الأغلبية الشيعية السكانية (الموجة الأولى كانت انتفاضة "الكهرباء" في حزيران 2010، وبعدها انتفاضة "جمعة الغضب" في 25 شباط 2011، ثم الموجة الثالثة التي بدأت في تموز 2015 واستمرت لأكثر من سنتين ونصف) بوصفها دوال سيكوسياسية تعبّر عن ظاهرة احتجاجية شاملة، ما برحت تشهد تحولات ذهنية وصيرورة سلوكية عبر مراحلها المتعاقبة والمتصلة ببعضها توليدياً.

وانطلاقاً من هذه الرؤية الباحثة عن نسج التسلسل بين الأحداث، تسعى هذه السطور إلى تقديم مؤشرات أولية اختزالية تفسيرية لهذه الموجة الاحتجاجية الجديدة (الرابعة)، اتصالاً بمجمل ما كتبتُهُ عن الحراك الاحتجاجي خلال السنوات الثمانية الماضية.

التوجه "الايديولوجي" للمحتجين
لم تندلع الاحتجاجات الحالية على نحو مفاجئ أو غير متوقع. فقد سبقتها عشرات الاحتجاجات المحلية المحدودة في امتدادها والمتنوعة في كثافتها ونوعية مظالمها، في مختلف المحافظات الجنوبية الوسطى، للمطالبة بتوفير مياه الشرب، ورفع الأجور، والحصول على فرص عمل، وإصلاح منظومات الصرف الصحي، ورفض "خصخصة" الكهرباء، والاستياء من شحة المياه لسقي الأراضي الزراعية، والتذمر من اقتتال العشائر فيما بينها. وتشير إحدى الدراسات الأكاديمية الغربية إلى وجود ما لا يقل عن (260) نشاطاً احتجاجياً منفصلاً جرى تنظيمه خلال السنة التي سبقت الموجة الاحتجاجية الحالية.

أما اليوم، وعلى الرغم من استمرار الطابع المطلبي الخدماتي القادح للاحتجاجات الحالية الأكثر اتساعاً وزخماً وديمومة وتنوعاً، وسط ارتفاع مأساوي لمعدلات الفقر والبطالة والأمراض والأمية، إلا أن هذه المطالب المباشرة باتت تشكّل تعبيراً عرضياً عن جوهر حرماني غير مباشر يراد به بلوغ هدفين أشد عمقاً وتأصيلاً، لتعويض الحرمان وإنهائه، أعلنَ عنهما جمهور شبابي في أغلبيته الساحقة، بصيغة ايديولوجية غير منهجية - أي اجتماعية لا حزبية- عبر هتافاته وشعاراته.

الهدف/ الشعار الأول «الشعب يريد إسقاط الأحزاب»، يعبّر عن رغبة مستميتة لإنهاء نظام الأسلمة السياسية الحاكم منذ 2003م، أي نزعة علمانية اجتماعية ترفض تسييس الدين سلطوياً دون أن ترفضه ثقافياً. وقد يشير أيضاً لدى بعض المحتجين إلى نزعة عدمية لازدراء وتخوين كل أنواع الهيكليات السياسية. وهو بذلك يعدّ تعبيراً أكثر تحديداً وإجرائية من هدف أساسي رفعته الموجة الاحتجاجية الثالثة في تموز 2015 بشعارها الشهير آنذاك: «باسم الدين.. باگونا الحرامية».

أما الهدف/ الشعار الثاني «المسألة مسألة وطن.. إعطونا وطن»، فيعبّر عن رغبة مدنية تكميلية للهدف الأول تتصل باستعادة الوطن في هويةٍ تتجاوز الأسلمة نحو الهوية الجامعة، أي شغف كبريائي بإعلاء الذات الجمعية المغّيبة. وهو بالمقايسة مع هدف أساسي آخر رفعته الموجة الاحتجاجية السابقة بشعارها آنذاك: «خبز.. حرية.. دولة مدنية»، يمثل نزوعاً تجريدياً لمغادرة الدعوة لنمط محدد من أنماط الحكم، نحو التعبير عن الجزع العميق من فقدان الوطن الذي يسبق الدولة بمفهومه الوجداني الجمعي.

ولا ينفصل هذا الهدفان عن بعضهما بل يمتزجان وظيفياً في غاية موحدة ترمي في باطنها الضمني إلى استعادة العدل الاجتماعي، إذ ما عاد يمكن للوعي السياسي للمحتجين أن يتفادى الإقرار بأن الأسلمة السياسية والفساد الدولتي والحرمان الاجتماعي وتفكك الهوية الوطنية، إنما تغذي بعضها على نحو رضاعي دائري متين.

لكن هذا الوعي السياسي سيظل محدوداً في تأثيره الفعلي لصالح تحقيق هدفيه المشار إليهما، بسبب افتقار هذه الموجة الاحتجاجية إلى الرغبة بتطوير إطار تنظيمي سياسي محدد. وهذا ما جعلها تتخذ طابعاً راديكالياً أفقياً أشد من الاحتجاجات السابقة، إذ باتت تتجدد يومياً على نحو ذاتي، وبأساليب متنوعة، دون أن تظهر أي قيادات موحدة أو غطاء سياسي لها حتى الآن، باستثناء التنسيق الآني بين المحتجين بشكل مباشر أو عبر وسائل التواصل الاجتماعي.

هذا الافتقار التنظيمي والابتعاد عن الشخصنة داخل الموجة يعني امتلاكها لشرعية مُدركة أكبر في أذهان الجمهور إذ تظل بعيدة عن التخوين أو التشكيك بغاياتها. وهو ما سيمنحها عنفواناً آنياً مؤثراً، ولكن دون أن يستطيع بالضرورة الاحتفاظ بفاعليته لشوط زمني طويل، في ضوء تشتت المطالب، وتعدد الناطقين بلسان المحتجين، وتدخل القيادات العشائرية المحلية، ومساعي مراكز القرار الحكومي - الفيدرالي والمحلي- لامتصاص الموجة عبر انتهاجها لسياستينِ متزامنتين مع المحتجين: القمع (رصاص حي واعتقالات وتعذيب)، وتقديم وعود شفوية وكتابية لكسب الوقت (بإطلاق تعيينات وظيفية، ومنح تخصيصات مالية، وزيادة ساعات التزويد بالكهرباء، وإكمال مشاريع خدمية متوقفة)، دون أن تتوافر لديها أيُّ مقومات واقعية للخروج من أزمة الفساد البنيوي الذي أصاب الدولة بالشلل وأضاع مواردها - نهباً وهدراً- دون أي مقابل.

المسار النشوئي لهذه الاحتجاجات
إن تأريخ التطور الاجتماعي للبشرية سلسلة مركبة من حلقات تمثل كل واحدة منها الوعاء الجنيني لنمو الحلقة اللاحقة بكل ما يكتنف هذا النمو من نقض وحذف وإضافة واحتواء واستقلالية. والأمر ذاته ينطبق على الوعي والسلوك السياسيين للأفراد والجماعات، إذ لا يمكن النظر إليهما في لحظة فاصلة إلا بوصفهما تمظهراً لحلقات جنينية أنتجتهما. وهذه الحلقات يمكن أن تنشط على نحو متسلسل أو متزامن أو متقطع دون أن يلغي ذلك الصلة التلازمية الموضوعية بينها.

ووفقاً لذلك، لا يمكن تشخيص المحركات السيكوسياسية للحركة الاحتجاجية الحالية بمعزل عن "الهيمنة الثقافية" Cultural Hegemony التي سبق أن مارستها الموجة الاحتجاجية الثالثة (بدأتها نخب مدنية ثم التحق بها الصدريون) ابتداءً من تموز 2015 وحتى الانتخابات البرلمانية في أيار 2018، في إشغالها للفضاء العمومي الذهني للمجتمع، إذ أسهمت في بلورة وعي جديد للمجتمع بذاته يتضمن الدعوة لإصلاح سياسي شامل يؤسس لدولة مدنية مستقبلية تحترم مبادئ العدل الاجتماعي والديمقراطية السياسية، بعد إعادة بناء النظام السياسي وفقاً لإعلاء الهوية الوطنية الجامعة والمواطنة المتساوية ونبذ الإثنية السياسية.

فقد أفلحت هذه الهيمنة خلال السنوات الثلاثة الماضية في تحريك المخيال السياسي العام للمجتمع للانتقال النسبي من ايديولوجيا الطوائف والأعراق السياسية المنتجة للتطرف والفساد، إلى حوار مجتمعي واسع يتمحور حول قضايا الإصلاح والمواطنة وحرية التعبير والعدل الاجتماعي والوطن المشترك والحق العام.

ولذلك يمكن الافتراض أن الموجة الاحتجاجية الحالية قد حدثت بوصفها امتداداً/ تعبيراً عن مدى قدرة أنماط التفكير والأخلاق التي تتبلور هيمنتها في لحظة سياسية فارقة، على الشروع بإحداث تغييرات جذرية لاحقة في المجتمع السياسي. غير أن هذا الإطار الثقافي الذي وفرته الموجة السابقة من الاحتجاجات بشقيها الشعبي والسياسي لا يقوم إلا بدور القادح المعرفي/ الأخلاقي فحسب، بكل ما يمثله هذا الدور من وظيفة حاسمة، إذ لا يمكنه إطلاق السلوك الاحتجاجي الحالي للفئات المحرومة دون مقومات سيكوسياسية - جذرها اجتماعي واقتصادي- عميقة متراكمة تمثل الوقود الجوهري المسبق للحراك.

فقد اتسم السلوك الاحتجاجي خلال المرحلة السابقة بكونه نتاجاً جدلياً لتفاعله النشوئي مع خاصيتين أساسيتين في شخصية الفرد المحتج هما: "الحرمان النسبي" (أي الوعي بالحرمان وليس الحرمان المطلق بحد ذاته، إذ يتضمن شعور الفرد بالاستياء، ينتج من تقويمه سلبياً لواقعه بالمقايسة مع المتوقع والمستَحَق)، و"الهوية الوطنية" (جزءٌ من مفهوم الفرد عن ذاته، محمّل بدلالات عاطفية وقيمية نابعة من معرفته بانتمائه لبلد أو أمة)، طبقاً للقاعدة المستقرة امبريقياً في دراسات علم النفس السياسي والاجتماعي في بلدان كثيرة، والقائلة: «كلما أمكنَ تذكير المحرومين والمتضررين، بهويتهم الجمعية المشتركة – الوطنية مثلاً-  وبأنهم يمثلون أكثرية عددية مؤثرة، فإن خيار الاحتجاجات الجمعية العابرة لهوياتهم الفرعية، سيبرز لديهم بوصفه تعبيراً واعداً عن إمكانية التغيير واستعادة العدل الذي حُرموا منه»، إذ تمارس الهوية الوطنية هنا وظيفةً تكيفية مزدوجة هي: حماية تقديرهم لذواتهم الاجتماعية من جهة، وتنظيم جهودهم لممارسة الاحتجاج الجمعي من جهة اخرى.

أما اليوم، فيمكن الافتراض أن تفسير نشوء الموجة الرابعة من الاحتجاجات (ذات الطابع الأفقي الأكثر راديكالية) إنما يقتضي إضافة خاصية جديدة إلى الخاصيتين السابقيتين، هي "الاغتراب السياسي"، إذ نتجَ الاحتجاج الحالي عن تفاعل هذه الخصائص الثلاثة طبقاً للأنموذج النظري الآتي:
1- تعاظمُ الحرمان النسبي المتصاعد Progressive Relative Deprivation: أي زيادة كبيرة في التوقعات تتزامن مع نقصان مستمر في الموارد والحقوق. ففي ظل تراجع خطر تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) بعد هزيمته عسكرياً، وتحسّن الأوضاع الأمنية عموماً، وعودة الكثير من المجندين والمتطوعين المحليين إلى مدنهم وقراهم بانتظار "رعاية" الدولة لهم، وارتفاع أسعار النفط العراقي الخام من جديد في السوق العالمية، واستمرار الوعود الحكومية بقرب مساءلة الفاسدين الكبار لاسترجاع الأموال المنهوبة، ارتفعت التوقعات في الشهور الأخيرة لدى الجمهور المحروم بإمكانية تحسن أوضاعه معيشياً وخدماتياً. إلا أن الوقائع اليومية -خصوصاً مع ارتفاع شديد في درجات الحرارة وانقطاع الكهرباء- جاءت بعكس تلك التوقعات إذ شهدت تراجعاً شديداً في خدمات الصحة والتعليم والبنى التحتية وفرص العمل، ما جعل الاحتجاج يمثل أحد السلوكيات الأكثر احتمالاً في ضوء انغلاق الآفاق وإحباط الآمال. فالحرمان المتصاعد يمثل تاريخياً أحد أهم أسباب الثورات والانتفاضات التي يزداد احتمالها عندما تمر حقبة من انتعاش الآمال تعقبها مرحلة من التدهور الحاد.

2- اشتداد النزعة الوطنياتية المتصلة بمشاعر طبقية: اتسمت الحقبة الماضية منذ انتفاضة 25 شباط 2011، بانبعاث ملموس للمشاعر الوطنية الجمعية بديلاً عن الولاءات الإثنية التي اشتدت بفعل سياسات الهوية منذ 2003. وبعد احتجاجات تموز 2015 اتخذت هذه المشاعر توجهاً وطنياتياً أي بزوغ نزعة نخبوية وشعبوية تتبنى "الوطنية" بوصفها خياراً سياسياً وفكرياً وليس كونها مشاعر هوياتية فحسب. كما اتخذ الحراك السوسيوسياسي منحى طبقياً إذ بدأ بالتحول البطيء من ديناميات التطييف والتمذهب إلى ديناميات الحقوق والقضايا، عبر انقسام الحدث السياسي في المخيال الاجتماعي إلى كونه دالة للصراع بين المالكين والفاقدين. كما شهدت هاتان النزعتان -الوطنياتية والطبقية- في الشهور الأخيرة اشتداداً احتمائياً ذاتياً لدى الشيعة السكانية (جماعة داخلية) مقابل تصاعد نزعة العداء والاتهام لديهم نحو إيران (جماعة خارجية) لكونها "المسؤولة" عن دعم نخب سياسية مزقت هوية البلاد ونهبت ثرواته. وحدث ذلك تأثراً بمناخ صراعي متزايد أصبحت فيه الشيعة السياسية منقسمة بين مؤيدين للنفوذ الإيراني صارت لهم دولتهم الزبائنية "الموازية" بمصالحها وسلاحها، وبين معارضين له يدعون إلى الإصلاح السياسي وتقوية الدولة الرسمية وعرقنتها.

3- الاغتراب السياسي Political Alienation: تجسّدُ الموجة الاحتجاجية الحالية بعمق الإحباطَ الوجودي الحاد لدى فئة الشباب المحرومين الذين يشكّلون العمودي الفقري للحركة، ممن تكاد أن تقتصر تنشئتهم السياسية على حقبة ما بعد 2003. فقد اقترن لديهم الدين السياسي بالفساد والحرمان والفقر والجوع والذل وتفتت الوطن دون أي تمثلات ايديولوجية منهجية تتوسط هذه العلاقة، في مقابل انفتاحهم المعلوماتي عبر وسائل التواصل الاجتماعي على تجارب الرفاه والتقدم في بلدان أخرى مجاورة لبلدهم.

كل ذلك جعلهم في حالة قطيعة نفسية مباشرة (اغتراب) مع السلطة بمؤسساتها ورموزها، بما يعنيه ذلك من فقدان الثقة بالنظام السياسي الذي يرونه منغلقاً على ذاته لا يكترث لإرادتهم ولا يحترم وعوده، واضطرارهم للانعزال المعنوي والوظيفي عنه، وشعورهم بالعجز عن التأثير فيه إيجاباً، وافتقاد المعنى من أي قرارات أو سياسات تصدر عنه، واستيائهم من اللامعيارية السياسية المحيطة بهم بما تتضمنه من إثابة للفاسدين ومعاقبة للنزيهين، فضلاً عن إدراكهم المتنامي للفجوة الأخلاقية بين سلوك النخب السياسية وتديّنها "الزائف". وقد بلغ هذا الاغتراب السياسي ذروته في نسبة المقاطعة الكبيرة للانتخابات النيابية التي جرت قبل شهرين فقط من اندلاع الاحتجاجات الأخيرة، لا سيما في المحافظات الجنوبية التي سجلت معدلات للمقاطعة أكثر من بقية مناطق العراق. يضاف إلى ذلك ما رافق تلك الانتخابات من إدعاءات بحدوثِ عمليات تزوير واسعة -حقيقية أو مصطنعة- أسهمت في تعميق مشاعر النقمة السياسية العميقة لدى هؤلاء الشباب.

يتضح إذن من هذا الأنموذج الثلاثي التفاعلي أن هذه الاحتجاجات قد اندلعت بتأثير اشتداد النزعة الوطنياتية/ الطبقية لدى المحرومين تصاعدياً ممن بلغوا مرحلة الاغتراب والقطيعة النفسيين مع النظام السياسي، مضافاً لها إدراكات متعاظمة لديهم بأنه -أي النظام- مسؤول عما أصابهم ويصيبهم من مظالم، وبأن الأوضاع القائمة غير شرعية، وتوجد ضرورة واقعية وأخلاقية لإزالتها، وأن الفوائد الناجمة عن الاحتجاج تفوق الكلف التي قد تتمخض عنه.

وقد تبلورت هذه الاحتجاجات بصيغة حركة اجتماعية مطلبية تمتلك وعياً سياسياً نافذاً ولكن دون أي ميول للتفتيش عن تأطير تنظيمي أو هوية سياسية أو رمزية قيادية لها، بسبب اغترابها السياسي الذي يجعلها شديدة الحساسية وفاقدة للثقة نحو فكرة التنظيم السياسي أياً كانت وجهته.

وهذا قد يدفعها - وظيفياً وليس غائياً- إلى الاكتفاء بتحقيق مطالب آنية جزئية فقط، نظراً لاستنادها العفوي و"المبرر" إلى "يوتوبيا" سياسية تلزمها بالتحرك في فضاء احتجاجي مجرد، دون إطار سياسي محدد يعمل على هيكلة الحركة وإدماجها في عملية الصراع السياسي على السلطة بما يحدد لها تكتيكاتها الآنية ومساراتها القادمة. وبذلك تغدو مرشحة أن تفقد زخمها في وقت قريب، في ضوء سياسة القمع والإغراء التي تتبعها الحكومة، دون أن يعني عدم إمكانية تجددها في مرحلة لاحقة بصيغ قد تغدو أكثر جذرية ما دامت عوامل اندلاعها ستظل ماثلة لزمن غير محدود.

الاحتجاجات الحالية وتحالف "سائرون"
إن واحداً من الاحتمالات الذي يمكن أن يعمل على إدامة زخم الموجة الحالية من الاحتجاجات وتحويلها إلى مشروع سياسي يمتلك القدرة على متابعة غاياته في تحقيق العدالة الاجتماعية والهوية الوطنية الجامعة، هو تنسيقها مع المعطيات السياسية المتحققة على يد الاحتجاجات الذي سبقتها في إطار التواصل الجنيني بين حلقات التطور الاجتماعي.

فقد تبلور الحراك الاحتجاجي للموجة الثالثة -في أحد أبعاده- إلى تحالف انتخابي حقق المرتبة الأولى في الانتخابات النيابية الأخيرة في أيار 2018، ذي برنامج سياسي مكتوب بين الشيوعيين والصدريين ومدنيين (تحالف سائرون). وقد استهدف هذا التحالف منحَ الهيمنة الثقافية للاحتجاجات بُعداً سياسياً عملياً في إطار التنافس الانتخابي، بصرف النظر عن القرارات التي سيتخذها مستقبلاً في احتمال المشاركة في السلطة التنفيذية الهشة المنقوصة الشرعية، أم تبني خيار المعارضة الفاعلة القابلة للتوسع بانضمام قوى سياسية واجتماعية جديدة لها.

وهذا البرنامج السياسي المكتوب يتضمن تفصيلياً كل مطالب الاحتجاجات الحالية، ما يجعله مشروعاً قابلاً للتفعيل في إطار احتجاجي أوسع من جمهور تحالف "سائرون" نفسه. فمن المرجح أن ديناميات الصراع السياسي المتجه إلى الحسم، ستجعل هذا التحالف بمرور الوقت أقرب إلى خيار المعارضة منه إلى خيار السلطة. وعندها - أي إذ ما تحوّلَ التحالف الشيوعي الصدري إلى معارضة محترفة برلمانياً وشعبياً-، قد يمكن الحديث عن تقاربٍ تنسيقي ميداني متكافئ، لا هيمنة احتوائية تقليدية، بين الراديكالية الشعبية الاحتجاجية - التي موجتها الحالية لن تكون الأخيرة- وبين غطاء سياسي يوفره تحالف "سائرون"، خصوصاً أن معظم المادة البشرية لهذا الحراك المشترك تمثلها الشيعة السكانية المقهورة.

إن أهم الدروس المستخلصة من اندلاع الاحتجاجات الحالية والتي سبقتها، أن الاستثمار السياسي الناجح في اللحظة العراقية الراهنة هو ذلك الذي يحدث في الرأسمال السوسيولوجي الناهض بشرعيته المتنامية ودينامياته المنفتحة على التطور، وليس في رأسمال النخب السياسية المتناقص بشرعيته المتآكلة والمنغلقة على الاستدامة.

وبخلاف ذلك، فإن الرصيد الانتخابي والمجتمعي الذي حققه تحالف الشيوعيون والصدريين خلال الموجة الاحتجاجية السابقة، سيكون مرشحاً للتفريط به، إذ أن استدراجهم للاستثمار السياسي في السلطة، أي للانخراط في عملية التقاسم المكوناتي للمناصب الحكومية العليا بمسميات "وطنية"، على نحو "رغبوي" أو مدفوع بـ"نشوة" الفوز الانتخابي المنتجة لوهم القوة، سيعني إحباطاً جمعياً واسعاً لجمهور ينتظر خلاصاً جذرياً وأخلاقياً من بؤسه الراهن. وهذا سيمهد أسباباً جديدة وجدية للتطرف والاغتراب السياسي العنفي.

إن خيار المعارضة البرلمانية- الشعبية يمكن أن يبلور ظروفاً موضوعية لبروز حكومة ظل ضاغطة سياسياً ومدعومة احتجاجياً، تعمل في مدى زمني متوسط على انتقال السلطة من بنية الإثنيات السياسية الفاسدة إلى مدخل أولي نحو بنية المواطنة والحكم الرشيد، دون المرور باحتمال الهزات العنفية المتوقعة من جراء التهرؤ الدولتي المتواصل والفشل الحكومي المزمن في إيجاد أي حلول للخصومة العميقة المتصاعدة بين المجتمع والنظام السياسي.

ما حققته الاحتجاجات: عرقنة الصراع السياسي
إلى جانب الديناميات السيكوسياسية المحركة لهذه الاحتجاجات، والمشار إليها قبل قليل، بما تقدمه ضمناً من مؤشرات عن مآلات العلاقة بين سلطة منغلقة ومجتمع مأزوم، فيمكن النظر أيضاً إلى هذه الاحتجاجات بوصفها تعبيراً غير مباشر عن تحوّل دراماتيكي في مسارات الصراع السياسي على مستوى النخب الحاكمة.

فنحن اليوم أمام مشهدٌ لاتخطئه العين: جمهور شبابي محتج، ذو نزعة يساروية اجتماعية، ينتمي للشيعة السكانية المحرومة والمحبَطة في مدن البؤس والألم، لا يرفع إلا أعلاماً عراقية ولافتات تطالب بالخبز والخدمات وفرص العمل، يفلحُ خلال أيام قليلة - دون قصد- في توحيد أغلب جماعات الشيعة السياسية اليمينية ضده، الدولتية منها واللادولتية، ممن يمسكون بمفاصل السلطة السياسية والاقتصادية والعسكرية.
هذا التوحد التضامني بين حمائم السلطة وصقورها في عش واحد، بات يتمظهر لديهم بصيغ قمعية منظمة وقصدية في تنوعها: قتلى برصاص حي، واعتقالات، وتعذيب، وقطع خدمات الانترنت والتواصل الاجتماعي. يضاف إلى ذلك خطابهم الإعلامي لشيطنة الاحتجاج بكونه مخترقاً بـ"مندسين"، وإنكارهم لحقيقة أن بعض ممارسات العنف التي صاحبت هذه الاحتجاجات السلمية في عمومها، تعدّ أعراضاً جانبية محتملة في مجتمع مأزوم ومستلب، ولا تنفي جوهر المعضلة المتمثل بالعجز الحكومي والدولتي عن تحقيق العتبة الدنيا من الخدمات والموارد الملبية للحاجات الأساسية للناس المطالبين بحقوقهم وكرامتهم.

وبين هذا وذاك، تبدو الشيعة الدينية (السيد السيستاني أكثر مراجعها تأثيراً ونفوذاً) غير راغبة بعد بحسم موقف نهائي من هذه المواجهة "الحتمية" بين الشيعة السياسية والشيعة السكانية في بلد مزقته الأسلمة الرثة والتدين الزائف والفقر المُمأسس والفساد المُقونن. ففي الأيام الأولى من هذه الاحتجاجات، حاولتْ في تصريحاتها أن تكسب وقتاً إضافياً عبر استعانتها بألفاظ فقهية متقادمة واستعارات لغوية دائرية لحث الحكومة على "خدمة" المواطنين، ريثما تتضح مآلات البوصلة. وهي بذلك كانت تمارس وظيفتها التاريخانية في "حماية" السردية الدينية لحظة المواجهة غير المحسومة وغير النهائية بين سلطة تضمحل وجمهور محتج لا يمتلك بديلاً سياسياً جاهزاً.

هذا الانتظار وكسب الوقت كان يعكس موقفاً متردداً ما بين اختيار "حكمة" التريث انتظاراً - ربما لأمد طويل- لظهور بديل سياسي قادر على ملء فراغ السلطة في حال انهيار النظام الحالي، وما بين اللجوء إلى "حكمة" الحسم تسريعاً لظهوره. وكل هذا لا ينفي التوجهات المدنية المتدرجة التي أبداها السيد السيستاني خلال السنوات الثلاثة الأخيرة بسعيه إلى إعادة طرح الدين بوصفه قيمة اجتماعية لا تتعارض مع الديمقراطية، والتعددية الفكرية، والحرية الفردية، والإصلاح السياسي، فضلاً عن دعوته إلى إصلاحات سياسية عميقة، وتجاوز المحاصصات الحزبية والطائفية، وإلغاء امتيازات المسؤولين الكبار، واتخاذ إجراءات صارمة لمكافحة الفساد وتحقيق العدالة الاجتماعية.

ولكن مع تواصل الاحتجاجات واتضاح لحظة الاحتدام الراهنة بين الثيوقراطيا الشيعية الفاسدة والسوسيولوجيا الشيعية المحرومة، اتجه السيد السيستاني خطوة إضافية نحو "الحسم" دون أن يجعله خياراً نهائياً. فقد أدان - بعد عشرين يوماً من اندلاع الاحتجاجات على لسان ممثله في خطبة الجمعة- الاعتداء على المتظاهرين السلميين والقوات الأمنية والممتلكات العامة والخاصة. و"منحَ" الشيعة السياسية - ضمنياً- وقتاً إضافياً، إذ دعا السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية إلى "تدارك الأمر قبل فوات الأوان"، لتحقيق المطالب الخدمية العاجلة للمحتجين، وتشكيل حكومة كفاءات لا تخضع لمصالح الأحزاب، ومحاكمة الفاسدين، وإجراء إصلاح سياسي وقانوني جذري. وأوضح أن في حال تنصلهم عن كل ذلك «فلا يبقى أمام الشعب إلا تطوير أساليبه الاحتجاجية السلمية لفرض إرادته على المسؤولين، وعندئذ سيكون للمشهد وجه آخر مختلف عما هو اليوم عليه».

وقد يُفهم من المحتوى الضمني لهذه الخطبة أن كبير مراجع الشيعة الدينية يتجه لكسب الوقت ليس إلا، لتهيئة بديل سياسي قادر على ملء فراغ السلطة، إذ تتجه قناعته نحو اليأس من قدرة هذا النظام على الاستمرار، وبالتالي ضرورة المباشرة غير المعلنة منذ الآن بإعادة هيكلة العلاقة بين الشيعة الدينية والشيعة السياسية بما يمهد لدور سياسي أساسي بديل تضطلع به الشيعة السكانية ببعدها السوسيوثقافي المستند إلى إرث مدني وحتى تكنوقراطي، في مرحلة ما بعد الإسلام السياسي الحالي.

إذن، أهو الشرخ/ الاقتتال الشيعي- الشيعي الذي حذر منه مفكرون وباحثون عديدون خلال السنوات الماضية، طبقاً لمستوى التحليل الماكروي (الفوقي)؟ أم هو أفول الهوية الشيعية السكونية بوظيفتها الإثنية المنغلقة بعد 2003، ليبزغ محلها خيار الهوية الشيعية الديناميكية بوصفها وعاءً طبقياً وطنياً يستوعب صراعات الموارد المنهوبة والمظالم الاجتماعية المُدركة، طبقاً لمستوى التحليل الميكروي (المجهري)؟ وهو بزوغ سيستدعي بالضرورة صدى مماثلاً في الهوية السنّية الديموغرافية المتأرجحة بين الاحتماء بـسردية الطائفة أو اللوذ بذاكرة الوطن.

ما يحدث اليوم أنموذج نظري فريد يستدعي التوقف البحثي العميق، لكيفية تحوّل الفاعل الديني السياسي في الطائفة الممسكة بالسلطة، إلى أداة تقمع الفاعل الاجتماعي السكاني فيها بسبب مطالب خدمية ومعيشية لا سياسية جذرية، بعد انقضاء خمسة عشر عاماً يُفترض أنها "نجحت" في تسييس الهوية وحجزها في إطار عصبوي داخل الطائفة.
ويحدث هذا التحول القمعي حتى دون أي غطاء ايديولوجي تبريري بالحد الأدنى، سوى تفعيل نظرية المؤامرة بعبارات رتيبة مكرورة عن "عنفية" المحتجين أو - في أحسن الأحوال- عن عدم قدرتهم على تطهير أنفسهم من "مندسين" غامضين يسعون إلى النيل من "هيبة" الدولة و"إسقاط" العملية السياسية "الوحيدة" الممكنة.

هذا الافتقار إلى غطاء ايديولوجي متين لتبرير القمع، يعزى إلى التآكل المتسارع في الشرعية الوظيفية للسلطة نتيجة سياساتها الهوياتية والزبائنية بالاستئثار بالريع النفطي المنهوب على حساب الأكثرية المحرومة من جانب, وإلى فقدانها لشرعيتها المُدركة في أذهان الناس بسبب خرقها التام لعقدها الاجتماعي الضمني والعلني مع المجتمع من جانب آخر.

وأمام تراجع كلا هاتين الشرعيتين، وفي ضوء انغلاق السلطة البنيوي، وعجزها الوظيفي على تحقيق إصلاحات سياسية وخدماتية حقيقية، واستعصائها الذهني على إدراك أنماط التفكير الاحتجاجي للمجتمع الشيعي المحلي، ولجوئها إلى القسوة والإنكار والتخوين والاستئساد، باتت تنمو شرعية مدنية أخرى مستقبلية في أذهان المحرومين، تتوزع ملامحها بعيداً عن التمثلات الطائفية المُتَخيّلة، قريباً من المقايسات العدالوية الواقعية، في إطار "مظلومية" مضاعفة، على نحو سيزداد تحاملاً وراديكالية وشغفاً بالعقاب كلما طال أمد الانقطاع الحالي في التواصل الدولتي والنفسي بين الطرفين.

إن أبرز المخرجات المستقبلية للموجة الاحتجاجية الحالية، بصرف النظر عن مآلاتها الحراكية الآنية، ومن خلال تفاعلها الجدلي مع الموجات الاحتجاجية التي سبقتها، وتمتعها بتعاطف شعبي مهم في عموم العراق، تتمثل في أنها أسهمت/ ستسهمُ جوهرياً في عرقنة السياسة في هذه البلاد بديلاً عن تطييفها، وفي أنها تمثل لحظة نوعية في التاريخ السوسيوسياسي للشيعة السكانية، إذ يشرعون بإعادة إنتاج الصراع السياسي في العراق وفقاً لجدل التباينات الطبقية والثقافية المفتوحة، خارج التماثلات الهوياتية الثيولوجية المغلقة.