في رسالة
لمجلس النواب العراقي ، رئيس مجلس الوزراء عادل عبد المهدي يعلن عن أستقالته معزياً
هذا القرار على أنه محاولة لحقن الدم العراقي ، وتجنيب البلاد المزيد من الفوضى والعنف.
القرار جاء متأخراً جداً من الرجل ، والدماء سالت وشباب فقدوا حياتهم في رحلة التأكيد
على مسؤولياتهم الكبيرة في الحفاظ على العراق كوحدة واحدة وفِي محاولة أعادة بناء هذا
الوطن والذي عملت كل الكتل السياسية بمختلف مسمياتها وتوجهاتها على تفكيكه وتدميره
القرار جاء متأخراً جداً
من الرجل ، والدماء سالت وشباب فقدوا حياتهم في رحلة التأكيد على مسؤولياتهم
الكبيرة في الحفاظ على العراق كوحدة واحدة وفِي محاولة أعادة بناء هذا الوطن والذي
عملت كل الكتل السياسية بمختلفمسمياتها
وتوجهاتها على تفكيكه وتدميره.
لم تكن أستقالة الرجل منةٌ منه ،
فهو أي عبد المهدي أعتاد على أن يقول أن
أستقالتي في جيبي دلالة على أنه لا يكترث
بأي منصب سياسي مهما كبر ، لكن أستقالته جاءت نتيجة الضغط الكبير والمستمر وعلى
مدى شهرين أعطى فيها الشباب العراقي أنموذجاً يحتذى به من الانضباط والتمسك
بأهدافه الرفيعة والمتعالية بسلمية تظاهراته وعفويتها رغم محاولات السلطة البائسة
في ألصاق ابشع التهم للتقليل من شأن هذه التظاهرات ومحاولة ربطها بأجندات خارجية
وحتى داخلية ، ومن خلال أستخدام العنف اللا مبرر للقضاء على هذه
التظاهرات بعد أن
عجزت السلطة أعلامياً من سلب مشروعية أهدافه.
لقد تجاهلت السلطة الحاكمة في
العراق كل النداءات التي اطلقها الشباب العراقي بأحقية وجدية طلباتهم التي تتعلق
بلزومية أحداث تغييرات جادة في مرافق الحياة كافة ، في التركيبة السياسية ، وفِي
البناء الاقتصادي ، وفِي عملية التحول الاجتماعي المطلوبة لإحداث حالة وطنية جامعة
تختفي عندها كل المسميات الطائفية المقيتة التي اعتاشت عليها سلطة الأحزاب
المتنفذة بعد سقوط الطاغية وليومنا هذا.
لم تدرك السلطة الحاكمة كعادتها
، أنها أمام جيل يدرك ما يريد ومستعد أن يمضي في طريق الوصول الى أهدافه مهما كان
الثمن ، فهو جيل محروم ، جيلٌ عطش للحرية وللعمل وللإبداع والمشاركة الجادة في
عملية صنع القرار ، وهو جيل لا يملك أي شيء ليخسره أذا ما انتفض ، وهذا الجيل خطر
جداً في المجتمع ، وكما وصفه الكاتب الأمريكي "جيمس بالديوين" ،
"أن جيلاً لا يملك شيئاً يخسره هو أخطر شيء في المجتمع".
بالتأكيد هذا الوصف من قبل
بالديوين يحتمل وصفاً سلبياً حدده واقع الكاتب الأمريكي ذو الأصول الأفريقية والذي
عاش في فترة متأزمة معبئة بالقهر والفقر والحرمان والعنصرية التي كان يمارسها
الرجل الأبيض ضد أناس لا يرى فيهم نوع من حياة تحترم ، لكن في العراق الحال مختلف
، فهذا الشباب المحروم يستمد من حرمانه كل أدوات ابداعه ورغبته في أحداث تغيير جدي
وجذري في المجتمع العراقي.
هناك رغبة جامحة يمتاز بها الجيل
الجديد في العراق ، تدفعه نحو الانفصال الكامل عن واقع مؤلم افرزته سياسات
الحكومات المتعاقبة على حكم العراق بعد سقوط الطاغية ، وركزت هذا الواقع المؤلم
سلوكيات سلبية لأجيال سابقة لهذا الجيل الجديد ، والتي لم تأخذ على عاتقها مسؤولية
أحداث التغيير في واقعها المزري وهي بالتأكيد معذورة في ذلك ، لعمق الجرح الذي
أصاب كرامتها في الصميم بعد أن رضخت واستسلمت لسادية نظام شوفيني عنصري تمثل في
نظام حزب البعث ، وتصلبت في روحها وأفكارها عندما أمنت بقدسية لصوص وخطوط حمر.
هذا الجيل الجديد ، غسل عارنا
جميعاً فأستحق عن جدارة أن يرفع هو وحده لا غيره شعار الامام الثائر الحسين ابن
علي عليهما السلام "هيهات منا الذلة". الان نعود الى سؤالنا ماذا بعد
أستقالة عبد المهدي؟ هي أول الغيث من دون شك ، وهي بداية أنهيار نظاماً محاصصاتي
فاسد أوجدته قوة الاحتلال الأمريكي ودعمته قوى أقليميةً وأخرى محليةً تحت ذريعة
وجوبية مشاركة الجميع في نظام ديمقراطي توافقي يحفظ للجميع حقوقهم وخياراتهم ،
وتناسوا أن هذا النظام فاسد من حيث المبدأ ومن حيث التطبيق ، والحالة
اللبنانية ماثلة أمامنا بكل
تجلياتها المرعبة. وهي أي الاستقالة بداية لبناء نظامٍ سياسي جديد تفرضه قوانين
واضحة بمعاييرها الانتخابية والوطنية والمهنية ، والتي ستكون عاملاً أساسياً في
التأسيس لدولة المواطنة التي تحترم فيها رغبات الأقليات وتحترم أيضاً رغبات
الأغلبية السياسية والتي تفرزها صناديق الاقتراع.
هي أيضاً ستكون بداية لنهاية
الفساد الذي استشرى في كل مفاصل الحياة في
العراق ، في كل المؤسسات حتى القضائية
منها.
ما يتبع هذه الخطوة يجب أن يكون
على مستوى تضحيات الشباب العراقي ، فمحاولة القوى أو الكتل الفاسدة بأيجاد البديل
لعادل عبد المهدي سوف لن تنتهي ، لان هذه الكتل تعيش حالة انفصام لا مثيل لها ،
فهي لا زالت تشعر أنها يجب أن تكون جزء من الحل وأنها أخلاقياً مؤهلة لذلك ، وهذا
لعمري هو الخسران المبين.
فكيف لمن يكون هو أساس المرض أن
يعطي العلاج لهذا المرض؟ أشكالية أخلاقية تعيشها هذه الكتل الفاسدة ، بالإضافة الى
أشكالاتها الفكرية والبنيوية والتي لم تعمل هذه الكتل على إعادة زيارتها من جديد
وأحداث ماهو مطلوب منها للتغيير.
بالتأكيد ، الشارع العراقي يمتلك
البديل المستقل والمهني والنزيه وهناك أسماء كثيرة لقيادة مرحلة انتقالية يتم
خلالها أحداث تغيرات في قوانين الانتخاب وإعادة النظر في بعض فقرات الدستور
المخيفة والتي تنطوي تطبيقاتها على مخاطر تمس وجود العراق برمته ، وأنا هنا لست
بصدد عرض أسماء معينة بذاتها وأن أمتلكت الحق في ذلك كباحث سياسي مستقل ، لكن
الامر يترك للشباب العراقي وللناخب العراقي لكي يختار من يراه مناسباً وهو قادر
على ذلك.
بالتأكيد ، مخاضات الديمقراطية في
مجتمعات عانت كثيراً تحت سطوة حكومات شمولية متجبرة ، مخاضات عسيرة ومؤلمة ومكلفة
، لكن نهاياتها رائعة. وتجربة العراقيين مع النظام الديمقراطي الذي يرغب به الشباب
العراقي والجيل الجديد تجربة مريرة ، لكنها تحسب للعراقيين بكل أخطائها وسلبياتها
، فالديمقراطية نظام متماسك متشابك في مسيرته التاريخية التي لا تنفصم حلقات
سلسلتها.
فالنظام الديمقراطي المحترم هو
وسيلة تقود الى غاية مفادها نقل الانسان من التوحش الى التمدن ، كما هو حالة الوطن
الذي ينقل الانسان من التوحش الى التمدن حسب تعبير المفكر نصيف نصار ، وأن ما جرى منذ
١٦ سنة في العراق هو ماضي كلنا شاركنا في حركته وفساد أحداثه ، وأن صراعات هذا
الماضي يجب أن تكون خلفنا ، ليست أمامنا أو الى جانبنا على حد قول المفكر المغربي
محمد عابد الجابري.
الجيل العراقي الجديد الخارج من
تحت رماد فساد أحزاب الإسلام السياسي والأحزاب العلمانية والتي وضعت جانباً كل
قيمها ومبادئها من أجل الحصول على مكاسب مادية لا قيمة لها ، هذا الجيل عازم على
أحداث ثورة كبيرة تكون نتيجتها الحتمية هي وطن يتسع للجميع.
يشرفنا أن يكون الأستاذ عقيل عبود مؤلفًا مساهمًا في مدونة "الشرق الأوسط الجديد"