Guest contributor, Dr. Faris Kamal Nadhmi, is a professor of social psychology at Salahiddin University in Arbil, the KRG, Iraq. He formerly taught political psychology at Baghdad University. His latest book is The Political Islamization of Iraq, Dar al-Mada Press, 2013. This letter was published in al-Mada newspaper on July 16, 2014.
(1)
هل كان ترفاً فائضاً أن يجمعنا كبرياء الهوية العراقية الواحدة، وأن تدمع عيوننا عند سماع النشيد الوطني، وأن نتسامى عزاً عند التحديق بجدارية جواد سليم الخالدة؟ هل كنا ساذجين حينما صدقنا أن دجلة والفرات قد وحّدا حقاً الجغرافية والسياسة في إطار اجتماعي متين حيك بخيوط النسل والفن والزمن الميزوبوتامي الجميل؟ وهل جاء اليوم هؤلاء البرابرة المتأسلمون ليوقظوننا من "غفلتنا" تلك ويعيدوننا إلى "حقيقة" اختلافنا وتشرذمنا واستعصائنا على التعايش؟!
مَنْ مِن العراقيين لم يكن يريد أن يكون عراقياً؟ مَن من العراقيين لم يكن متحمسا في الافتخار والتفاخر بعراقيته؟ مَنْ من العراقيين لم يحب بغداد ويتعصب للياليها ونهاراتها، لكرادتها وأعظميتها، وكأنها وجدت لأجله فقط؟
من يستطيع أن ينسى العراق الذي عرفناه في الكتب المدرسية، وفي ذكريات أمهاتنا وآبائنا، وفي سفرات الطفولة إلى البصرة وسرسنك والموصل وحديثة؟ حتى الكرد ما يزالون يوقرون اسم العراق بالرغم من استقلالهم شبه المكتمل عنه، بل إن نفراً مهماً منهم يصرّ أن يعتز بعراقيته وكرديته معاً.
(2)
الكارثة المصيرية التي تعصف بالعراق اليوم هي تمظهر غير مباشر لتراكم مريع لأزمات أخلاقية عصفت بالسلوك السياسي لكل أنواع السلطات التي حكمت العراق خلال أكثر من نصف قرن، ولم تجد لها حلاً ولو جزئياً حتى اليوم. ولكي أكون محدداً في توصيف هذه الكارثة، أطلق عليها تسمية "إصرار السوسيولوجيا العراقية على هزم الذات".
هذا الإصرار مرده احتمالان متداخلان: إما رغبة لا شعورية جمعية مستميتة لعقاب الذات، وهذا احتمال يبدو مفتقراً لأسانيد كافية وإنْ كان لا يخلو من أحقية جزئية؛ وإما صور ذهنية مشوهة واعتقادات لا عقلانية جرى تجذيرها بعمق في الإدراك الاجتماعي العراقي على نحو تخيلاتٍ إثنية متخندقة صراعياً، ولهذا الاحتمال أرجحيته في رؤيتنا الحالية،
فأغلب الفرقاء وحتى شرائح كثيرة من المثقفين باتوا يتحدثون باختزال وتسطيح شديدين عن مظلومية سابقة للشيعة تتصارع مع مظلومية حالية للسنّة، لتفسير الانهيار الدولتي والمجتمعي الذي يحدث اليوم. هل يمكن بالفعل التحدث علمياً وواقعياً عن مفهوم نقي للشيعة أو للسنّة لتوصيف حال العراق سابقاً وحالياً؟
لا أحد تقريباً بات يريد الإقرار بمسألة التعدد الهوياتي المتزامن في الشخصية البشرية، وبأن لا وجود لجماعة بشرية أحادية الهوية والوظيفة بشكل مطلق. فلكل جماعة مذهبية ثمة ثلاثة أبعاد هوياتية منفصلة وظيفياً وقابلة أيضاً للتفاعل بحسب العوامل الموقفية المحيطة: بُعد ديموغرافي مدني متسامح لا بد منه، وبُعد ديني محايد لا بد منه، وبُعد سياسي صراعي غير حتمي.
وطبقاً لهذا التصنيف، فإن الشيعة والسنّة ديموغرافياً، هم الغالبية المدنية والريفية الكاسحة من عرب العراق الذين يقبلون بعضهم حد التزاوج والتصاهر والتفاعل الثقافي والاقتصادي المنتج. أما دينياً، فالشيعة والسنّة كلاهما لديه أقلية محدودة تختص فقهياً بما تنتجه مراجعهم من ثيولوجيا ومرويات داخل الحوزات والمدارس دون إلغاء للآخر. وسياسياً، فبعد أن أسّس بول بريمر نظام الطائفية السياسية في تموز 2003، صار الشيعة والسنة وقوداً ديموغرافياً ودينياً بخساً لآلة الفساد السياسي التي تديرها أقلية ثيوقراطية من الطائفتين مصممة على إدامة الصراع الإثني بوصفه المبرر الوحيد للبقاء في سدة السلطة ولو على أنقاض مجتمع يعاني أقصى درجات الإذلال والتجويع والاكتئاب والتغريب النفسي والتشريد المناطقي في بلاده.
هذا البُعد السياسي الصراعي بين شيعة العراق وسنّته لم يكن حتمياً، بل هو محض احتمال أمكن تصنيعه سيكولوجياً بأدوات الفعل السياسي والاقتصادي والأيديولوجي، مثلما يمكن تصنيعه في أي مجتمع آخر يبدو مستقراً في لحظة تأريخية معينة.
فبعد أن تم قدح هذا الصراع جرت إدامته عبر ما أسسته ضمن ما يسمى بـ"الاقتصاد السياسي للحروب الأهلية"، أو كما يسميه "جورج إلويرت" George Elwert بـ "أسواق العنف" Markets of Violence، إذ يقول: ((أمراء الحرب يكسرون ظهر الدولة ويحتكرون العنف بدلها. فخلف دخان الصراعات الدينية والعرقية والسياسية والايديولوجية، يتضح المصدر الاقتصادي للفعل الاجتماعي... واستمرار هذا العنف يستند إما إلى دوافع اقتصادية أو سلوك اقتصادي لا شعوري)).
وليس أكثر من دولة نفطية ريعية فاشلة كالعراق جرى تقويض مؤسساتها على يد الاحتلال الأمريكي، يمكن أن تقدم أسواقاً "مستقرة" ومولّدة للعنف الطائفي المقتات على أموال الفساد الذي أصبح بحد ذاته اقتصاداً سياسياً "آمناً" وراسخاً، بل وقادراً بدوره على توليد بنى مجتمعية فوقية متمثلة بالأفكار التعصبية والسلوكيات الإقصائية بوصفها الضامن المؤكد لاستمرار اقتصاد العنف وازدهار أسواقه.
(3)
إذن، هل وصلنا أخيراً إلى المصير الأخرق الذي كان بالإمكان تجنبه تماماً؟ ها نحن اليوم نكف عن كوننا عراقيين متحضرين، ونبدأ بكوننا برابرة، إما داعشيين أو صفويين! فباحتلال مدينة الموصل في 9 حزيران 2014م وخروج أجزاء كبيرة من محافظات نينوى وصلاح الدين وديالى والأنبار عن سلطة الحكومة الاتحادية في بغداد، ووقوعها في قبضة الجماعات المسلحة القادمة من ثارات التأريخ وغرف التعذيب والإعدام، يكون العراق قد بلغ نقطة تحوّل حاسمة في تأريخه السياسي المعاصر. فالدولة العراقية اليوم باتت تقف برمتها أمام احتمال التفكك والحرب الأهلية أكثر من أي وقت مضى.
اللحظة الحالية في العراق هي البداية المؤكدة لانتفاء الشرعية عن مجمل العملية السياسية التي أدارت العراق منذ العام 2003م بتخطيط من الإدارة الأمريكية. فلا معنى لشرعية دستورية في ظل غياب الشرعية الوطنية المستمدة من الرضى المجتمعي العام عن أخلاقية أداء السلطة.
إنها لحظة صراع دموية بين نمطين بائسين من الإسلام السياسي للهيمنة على بلد عريق في علمانيته الاجتماعية ونزعاته الجمالية، دون أن يعني ذلك تجاهلاً لوجود عناصر أخرى عشائرية أو مدنية أسهمت بشكل محدود في هذا الصراع السياسي الذي اتخذ طابعاً ثيولوجياً كاسحاً في محصلته النهائية.
فالنمط الأول، أي السلطة الإسلاموية في بغداد بشقيها الشيعوي والسنّوي، وما يتصل بها من ميليشيات ممذهبة، قد فشلت في تقديم أي أنموذج لدولة تستطيع الحياة والاستمرار، بل إنها هدّمت كل العناصر الإيجابية المتبقية في الدولة العراقية المتآكلة قبل 2003م، ثم سعت إلى هزيمة ذاتها لا شعورياً، دون أن تتمكن من الاستفادة والتعلم من أي تجارب سياسية أو آليات ديمقراطية مرّت بها، إذ يعزى ذلك إلى نزعتي الاستبداد والفساد اللتين تغلغلتا فيها وجعلتا منها بنية سيكوسياسية مغلقة تفترس نفسها.
وفي مقابل ذلك يقف النمط الثاني، أي التنظيمات الإسلاموية الوحشية العابرة للجنسيات (القاعدة وداعش) بما اندمج فيها من رموز وأدوات الفاشية البعثية السابقة، فإنها منزوعة الشرعية أصلاً في أذهان العراقيين بما فيهم سكّان المحافظات ذات الأغلبية السنّية الديموغرافية، الذين يرون في سلوك هذه التنظيمات نمطاً من أصوليةٍ متطرفة لا تتناسب مع نمط الحياة العراقي المعروف ببراجماتيته ودنيويته. أما نجاحاتها العسكرية على الأرض فهي ليست إلا مكاسب وقتية ونتائج غير مباشرة لفشل النظام السياسي في بغداد في إدارة التنوع الإثنولوجي في البلاد، وإخفاقه في معالجة النزعة المطلبية التي عبّر عنها سكّان تلك المحافظات، بل ولجوئه إلى الحل العسكري القاسي في حالات عديدة بدلاً من التفاوض الحقيقي لكسب النخب السياسية والعشائرية والدينية ذات التمثيل العالي بين العوام.
هذا هو كل ما استطاع الإسلام السياسي الرث تحقيقه بعد أحد عشر عاماً من سادية الصراع على السلطة: نجح بتفتيت الهوية البشرية المؤنسنة وإعادة صياغتها وفق سرديات أساطيرية يصدقها كل فريق عن الآخر، ما يستدعي تفجير رأسه أو قصف بيوته أو محوه مادياً أو معنوياً على أي نحوٍ كان، لأنه ليس "ورعاً" بما يكفي، أو فقط لأنه "الآخر" الذي ينازعه على امتلاك الله!
وهنا أعاود طرح فرضيتي القائلة أن المجتمع العراقي ضحية لكل ما حدث ويحدث اليوم، إذ جرى تزييف وعيه، وهدم ثقافته السياسية، وشفط أمواله عبر تعميته بخلافات فقهية سطحية عمرها عشرات القرون، لينكفئ على نفسه فاقداً أي فاعلية في التأثير في الأحداث، بل مُستَدرَجاً ضد إرادته إلى كوارث ومآسي لا حدود لها، ليؤكد ارتهانه لقوى عمياء تقوده من مذبح إلى مذبح وتجعله هازماً لذاته.
فها هو اليوم يعاود الانقياد الأعمى لإغراء نزع هويته الوطنية والافتتان بهويات طائفية مدججة بالأسلحة، متجاهلاً أن احتكار العنف وإنفاذ القانون هما من حق الدولة وحدها سواء كانت دولة فاعلة أو عاجزة، إذ لا يوجد اختراع بشري أعز وأغلى في قيمته وجدواه من اختراع الدولة المدنية بكل مثالبها ونواقصها القابلة للإصلاح على الدوام، بوصفها أفضل أنواع العقد الاجتماعي التي خلص إليها العقل البشري حتى اليوم.
(4)
المشهد السياسي العراقي اليوم أصبح يمثل صورة الماضي المنصرم بكل دمويته وفجاجته ورثاثته. لقد وقعت الخطيئة وجرى اغتصاب العراق على يد المتأسلمين الغرائزيين أدعياء "الوصاية" على مصائر الناس، سواء كانوا في سدة السلطة الرثة أو في فصائل الإرهاب الدموي. ولا فرصة لهؤلاء المغتصبين بأي مستقبل ينتشلهم من تهشم شرعيتهم وموتهم التام في العقل الجمعي للعراقيين.
فالعملية السياسية التي أنتجت الهزيمة وأسبابها باتت فاقدة لأسباب الاستمرارية والمقبولية المجتمعية الحقيقية مهما توافرت أساليب الإنعاش السريري المؤقتة. وذلك ليس بغريب عن العراقيين، إذ ظل نظام البعث مستغرقاً في موته السريري لأكثر من عقدين من الزمن.
إن التحليل السياسي الصرف لا بد أن ينتهي باستنتاج نهاياتٍ متشائمة للمشهد الكارثي الحالي. غير أن الغور في الديناميات الجدلية للسلوك الاجتماعي الذي ينضج متريثاً على عكس تقلبات السلوك السياسي، قد يجعلنا أقل تشاؤماً وأكثر انفتاحاً على المآلات الإيجابية المحتملة في المدى البعيد.
فالافتراض الذي أتبناه حول وجود نزعة يساروية اجتماعية كامنة في عموم المجتمع العراقي، يرشدني إلى أن العقلانية الاجتماعية في العراق يمكن استعادتها ببطء بتأثير وجود هذه النزعة اليساروية الحقانية المتجذرة بعمق في المنظومة القيمية للشخصية العراقية بسبب تراثها الثقافي العدالوي دينياً وطبقياً. وهذه النزعة غالباً ما ترتبط طردياً ببزوغ الهوية الوطنية الجامعة لكونها نزعةً عابرة للدين والمذهب والعرق والطبقة والمستوى التعليمي.
تؤكد تجارب الشعوب بقوة أن الهزائم الحربية الكبيرة تعقبها تبدلات عميقة في بنية السلطة السياسية، وفي خيارات الاقتصاد السياسي المتسيد، وفي مجمل المزاج الشعبي العام، حتى إنْ جاءت هذه التبدلات بتريث وبطء. ولذلك يبقى احتمال بزوغ الهوية الوطنية العراقية من جديد أمراً ممكناً، إذ أن تراجع شرعية النظام السياسي الطائفي الحالي من جهة، ووحشية الجماعات المتطرفة التي باتت تفرض سلطتها العنيفة على أجزاء واسعة من المحافظات ذات الأغلبية السنية الديموغرافية من جهة أخرى، قد يعيد الاعتبار السيكولوجي لشرعية الهوية الوطنية ضمن تهافت مريع لهويات فرعية فاشلة. وهنا قد تزداد بمرور الزمن احتمالات حدوث حراك شعبي مدني عابر للدين والمذهب والجغرافيا، لاستعادة الأمن والسلام والهيبة الوطنية.
هذا الحراك المرتجى يتطلب إطاراً تنظيمياً احتجاجياً له، عبر سعي عقلانيي العراق بمختلف صنوفهم، من ديمقراطيين وليبراليين ويساريين وقوميين ودينيين متنورين، للتحالف ضمن إطار جبهوي سياسي- ثقافي جديد عابر للأعراق والأديان والمذاهب والقبائل والمناطق، يكون بديلاً شرعياً وواقعياً للأوضاع السياسية الحالية المنتهية الصلاحية.
إن هذه النواة الجديدة يمكن أن تشكّل التكوين الجنيني الأولي للعراق القادم بتسامحه وسلمه الأهلي. فإذا كان المشهد السياسي الحالي بات يشكل الصفحة المحروقة الأخيرة من حقبة جرى فيها اعتماد الطائفية السياسية منهجاً لإدارة دولة كانت موحدة في هشاشتها وضعفها، فإن الصفحات القادمة لم يبتّ بعد بمآلاتها، وهي لا تزال تنتظر التشكل بإرادة صانعي الحدث من نخب وعوام.
فتقسيم البلاد ليس الخيار القدري الوحيد الماثل أمامنا، بل تنفتح السوسيولوجيا السياسية على آفاق متنوعة من بينها تراجع الوعي الطائفي المزيف وبزوع الوعي الوطني المنقذ.
(5)
من قال أن أحلام اليقظة لا تنقذ الشعوب من إحباطها وقنوطها ساعة الكوارث، لتنقلها إلى عالم الأمل والمحاولة؟ ألم يحلم العبيد يوماً أن يتحرروا؟ ألم يحلم الأوربيون يوماً أن يتوحدوا؟ ألم يحلم المرضى العقليون يوماً أن لا تثقب جماجمهم؟ ألم تحلم النساء يوماً بالمساواة بالرجال في الدساتير على الأقل؟
ليس لنا إلا أن نبقى نصون حلمنا العراقي، ونعلن كل يوم عن حقدنا الحكيم على طفيليات السياسة التي نهشت ألفتنا وحميميتنا نحو بعضنا، متعكزين على ذكرياتنا الأثيرة كشعب كان موحداً إلى حد كبير في مدارسه وجامعاته ومقاهيه وحاراته وأسواقه وآثاره وأغانيه ونكاته ومزاجه وأكلاته وزيجاته وآلامه وقهقهاته!
اليوم لا أرثي غياب العراق الذي عرفناه وتنفسناه واحترفناه في أعماقنا، بل أهجو قاتليه مزيفي الدين والسياسة والتأريخ، وأعلن زوال شرعيتهم الكامل من حياتنا إلى الأبد.
ليس لنا اليوم إلا أن نبدأ حلم استعادة العراق الذي جعلناه مهنتنا الوحيدة على مدى عقود طويلة ظلت آمالنا فيها عاطلة عن إيجاد وطن حنون ومؤكد ونهائي.
ليس ثمة ضمانات بالنجاح، لكننا لن نتخلى عن بديهية إننا يتامى في هذا الكون، وإننا ليس أكثر من نطفٍ انحدرت من حامض نووي واحد لتجد في هذا العراق جسداً وبيتاً ومعنى وهوية!
هل كان ترفاً فائضاً أن يجمعنا كبرياء الهوية العراقية الواحدة، وأن تدمع عيوننا عند سماع النشيد الوطني، وأن نتسامى عزاً عند التحديق بجدارية جواد سليم الخالدة؟ هل كنا ساذجين حينما صدقنا أن دجلة والفرات قد وحّدا حقاً الجغرافية والسياسة في إطار اجتماعي متين حيك بخيوط النسل والفن والزمن الميزوبوتامي الجميل؟ وهل جاء اليوم هؤلاء البرابرة المتأسلمون ليوقظوننا من "غفلتنا" تلك ويعيدوننا إلى "حقيقة" اختلافنا وتشرذمنا واستعصائنا على التعايش؟!
مَنْ مِن العراقيين لم يكن يريد أن يكون عراقياً؟ مَن من العراقيين لم يكن متحمسا في الافتخار والتفاخر بعراقيته؟ مَنْ من العراقيين لم يحب بغداد ويتعصب للياليها ونهاراتها، لكرادتها وأعظميتها، وكأنها وجدت لأجله فقط؟
من يستطيع أن ينسى العراق الذي عرفناه في الكتب المدرسية، وفي ذكريات أمهاتنا وآبائنا، وفي سفرات الطفولة إلى البصرة وسرسنك والموصل وحديثة؟ حتى الكرد ما يزالون يوقرون اسم العراق بالرغم من استقلالهم شبه المكتمل عنه، بل إن نفراً مهماً منهم يصرّ أن يعتز بعراقيته وكرديته معاً.
(2)
الكارثة المصيرية التي تعصف بالعراق اليوم هي تمظهر غير مباشر لتراكم مريع لأزمات أخلاقية عصفت بالسلوك السياسي لكل أنواع السلطات التي حكمت العراق خلال أكثر من نصف قرن، ولم تجد لها حلاً ولو جزئياً حتى اليوم. ولكي أكون محدداً في توصيف هذه الكارثة، أطلق عليها تسمية "إصرار السوسيولوجيا العراقية على هزم الذات".
هذا الإصرار مرده احتمالان متداخلان: إما رغبة لا شعورية جمعية مستميتة لعقاب الذات، وهذا احتمال يبدو مفتقراً لأسانيد كافية وإنْ كان لا يخلو من أحقية جزئية؛ وإما صور ذهنية مشوهة واعتقادات لا عقلانية جرى تجذيرها بعمق في الإدراك الاجتماعي العراقي على نحو تخيلاتٍ إثنية متخندقة صراعياً، ولهذا الاحتمال أرجحيته في رؤيتنا الحالية،
فأغلب الفرقاء وحتى شرائح كثيرة من المثقفين باتوا يتحدثون باختزال وتسطيح شديدين عن مظلومية سابقة للشيعة تتصارع مع مظلومية حالية للسنّة، لتفسير الانهيار الدولتي والمجتمعي الذي يحدث اليوم. هل يمكن بالفعل التحدث علمياً وواقعياً عن مفهوم نقي للشيعة أو للسنّة لتوصيف حال العراق سابقاً وحالياً؟
لا أحد تقريباً بات يريد الإقرار بمسألة التعدد الهوياتي المتزامن في الشخصية البشرية، وبأن لا وجود لجماعة بشرية أحادية الهوية والوظيفة بشكل مطلق. فلكل جماعة مذهبية ثمة ثلاثة أبعاد هوياتية منفصلة وظيفياً وقابلة أيضاً للتفاعل بحسب العوامل الموقفية المحيطة: بُعد ديموغرافي مدني متسامح لا بد منه، وبُعد ديني محايد لا بد منه، وبُعد سياسي صراعي غير حتمي.
وطبقاً لهذا التصنيف، فإن الشيعة والسنّة ديموغرافياً، هم الغالبية المدنية والريفية الكاسحة من عرب العراق الذين يقبلون بعضهم حد التزاوج والتصاهر والتفاعل الثقافي والاقتصادي المنتج. أما دينياً، فالشيعة والسنّة كلاهما لديه أقلية محدودة تختص فقهياً بما تنتجه مراجعهم من ثيولوجيا ومرويات داخل الحوزات والمدارس دون إلغاء للآخر. وسياسياً، فبعد أن أسّس بول بريمر نظام الطائفية السياسية في تموز 2003، صار الشيعة والسنة وقوداً ديموغرافياً ودينياً بخساً لآلة الفساد السياسي التي تديرها أقلية ثيوقراطية من الطائفتين مصممة على إدامة الصراع الإثني بوصفه المبرر الوحيد للبقاء في سدة السلطة ولو على أنقاض مجتمع يعاني أقصى درجات الإذلال والتجويع والاكتئاب والتغريب النفسي والتشريد المناطقي في بلاده.
هذا البُعد السياسي الصراعي بين شيعة العراق وسنّته لم يكن حتمياً، بل هو محض احتمال أمكن تصنيعه سيكولوجياً بأدوات الفعل السياسي والاقتصادي والأيديولوجي، مثلما يمكن تصنيعه في أي مجتمع آخر يبدو مستقراً في لحظة تأريخية معينة.
فبعد أن تم قدح هذا الصراع جرت إدامته عبر ما أسسته ضمن ما يسمى بـ"الاقتصاد السياسي للحروب الأهلية"، أو كما يسميه "جورج إلويرت" George Elwert بـ "أسواق العنف" Markets of Violence، إذ يقول: ((أمراء الحرب يكسرون ظهر الدولة ويحتكرون العنف بدلها. فخلف دخان الصراعات الدينية والعرقية والسياسية والايديولوجية، يتضح المصدر الاقتصادي للفعل الاجتماعي... واستمرار هذا العنف يستند إما إلى دوافع اقتصادية أو سلوك اقتصادي لا شعوري)).
وليس أكثر من دولة نفطية ريعية فاشلة كالعراق جرى تقويض مؤسساتها على يد الاحتلال الأمريكي، يمكن أن تقدم أسواقاً "مستقرة" ومولّدة للعنف الطائفي المقتات على أموال الفساد الذي أصبح بحد ذاته اقتصاداً سياسياً "آمناً" وراسخاً، بل وقادراً بدوره على توليد بنى مجتمعية فوقية متمثلة بالأفكار التعصبية والسلوكيات الإقصائية بوصفها الضامن المؤكد لاستمرار اقتصاد العنف وازدهار أسواقه.
(3)
إذن، هل وصلنا أخيراً إلى المصير الأخرق الذي كان بالإمكان تجنبه تماماً؟ ها نحن اليوم نكف عن كوننا عراقيين متحضرين، ونبدأ بكوننا برابرة، إما داعشيين أو صفويين! فباحتلال مدينة الموصل في 9 حزيران 2014م وخروج أجزاء كبيرة من محافظات نينوى وصلاح الدين وديالى والأنبار عن سلطة الحكومة الاتحادية في بغداد، ووقوعها في قبضة الجماعات المسلحة القادمة من ثارات التأريخ وغرف التعذيب والإعدام، يكون العراق قد بلغ نقطة تحوّل حاسمة في تأريخه السياسي المعاصر. فالدولة العراقية اليوم باتت تقف برمتها أمام احتمال التفكك والحرب الأهلية أكثر من أي وقت مضى.
اللحظة الحالية في العراق هي البداية المؤكدة لانتفاء الشرعية عن مجمل العملية السياسية التي أدارت العراق منذ العام 2003م بتخطيط من الإدارة الأمريكية. فلا معنى لشرعية دستورية في ظل غياب الشرعية الوطنية المستمدة من الرضى المجتمعي العام عن أخلاقية أداء السلطة.
إنها لحظة صراع دموية بين نمطين بائسين من الإسلام السياسي للهيمنة على بلد عريق في علمانيته الاجتماعية ونزعاته الجمالية، دون أن يعني ذلك تجاهلاً لوجود عناصر أخرى عشائرية أو مدنية أسهمت بشكل محدود في هذا الصراع السياسي الذي اتخذ طابعاً ثيولوجياً كاسحاً في محصلته النهائية.
فالنمط الأول، أي السلطة الإسلاموية في بغداد بشقيها الشيعوي والسنّوي، وما يتصل بها من ميليشيات ممذهبة، قد فشلت في تقديم أي أنموذج لدولة تستطيع الحياة والاستمرار، بل إنها هدّمت كل العناصر الإيجابية المتبقية في الدولة العراقية المتآكلة قبل 2003م، ثم سعت إلى هزيمة ذاتها لا شعورياً، دون أن تتمكن من الاستفادة والتعلم من أي تجارب سياسية أو آليات ديمقراطية مرّت بها، إذ يعزى ذلك إلى نزعتي الاستبداد والفساد اللتين تغلغلتا فيها وجعلتا منها بنية سيكوسياسية مغلقة تفترس نفسها.
وفي مقابل ذلك يقف النمط الثاني، أي التنظيمات الإسلاموية الوحشية العابرة للجنسيات (القاعدة وداعش) بما اندمج فيها من رموز وأدوات الفاشية البعثية السابقة، فإنها منزوعة الشرعية أصلاً في أذهان العراقيين بما فيهم سكّان المحافظات ذات الأغلبية السنّية الديموغرافية، الذين يرون في سلوك هذه التنظيمات نمطاً من أصوليةٍ متطرفة لا تتناسب مع نمط الحياة العراقي المعروف ببراجماتيته ودنيويته. أما نجاحاتها العسكرية على الأرض فهي ليست إلا مكاسب وقتية ونتائج غير مباشرة لفشل النظام السياسي في بغداد في إدارة التنوع الإثنولوجي في البلاد، وإخفاقه في معالجة النزعة المطلبية التي عبّر عنها سكّان تلك المحافظات، بل ولجوئه إلى الحل العسكري القاسي في حالات عديدة بدلاً من التفاوض الحقيقي لكسب النخب السياسية والعشائرية والدينية ذات التمثيل العالي بين العوام.
هذا هو كل ما استطاع الإسلام السياسي الرث تحقيقه بعد أحد عشر عاماً من سادية الصراع على السلطة: نجح بتفتيت الهوية البشرية المؤنسنة وإعادة صياغتها وفق سرديات أساطيرية يصدقها كل فريق عن الآخر، ما يستدعي تفجير رأسه أو قصف بيوته أو محوه مادياً أو معنوياً على أي نحوٍ كان، لأنه ليس "ورعاً" بما يكفي، أو فقط لأنه "الآخر" الذي ينازعه على امتلاك الله!
وهنا أعاود طرح فرضيتي القائلة أن المجتمع العراقي ضحية لكل ما حدث ويحدث اليوم، إذ جرى تزييف وعيه، وهدم ثقافته السياسية، وشفط أمواله عبر تعميته بخلافات فقهية سطحية عمرها عشرات القرون، لينكفئ على نفسه فاقداً أي فاعلية في التأثير في الأحداث، بل مُستَدرَجاً ضد إرادته إلى كوارث ومآسي لا حدود لها، ليؤكد ارتهانه لقوى عمياء تقوده من مذبح إلى مذبح وتجعله هازماً لذاته.
فها هو اليوم يعاود الانقياد الأعمى لإغراء نزع هويته الوطنية والافتتان بهويات طائفية مدججة بالأسلحة، متجاهلاً أن احتكار العنف وإنفاذ القانون هما من حق الدولة وحدها سواء كانت دولة فاعلة أو عاجزة، إذ لا يوجد اختراع بشري أعز وأغلى في قيمته وجدواه من اختراع الدولة المدنية بكل مثالبها ونواقصها القابلة للإصلاح على الدوام، بوصفها أفضل أنواع العقد الاجتماعي التي خلص إليها العقل البشري حتى اليوم.
(4)
المشهد السياسي العراقي اليوم أصبح يمثل صورة الماضي المنصرم بكل دمويته وفجاجته ورثاثته. لقد وقعت الخطيئة وجرى اغتصاب العراق على يد المتأسلمين الغرائزيين أدعياء "الوصاية" على مصائر الناس، سواء كانوا في سدة السلطة الرثة أو في فصائل الإرهاب الدموي. ولا فرصة لهؤلاء المغتصبين بأي مستقبل ينتشلهم من تهشم شرعيتهم وموتهم التام في العقل الجمعي للعراقيين.
فالعملية السياسية التي أنتجت الهزيمة وأسبابها باتت فاقدة لأسباب الاستمرارية والمقبولية المجتمعية الحقيقية مهما توافرت أساليب الإنعاش السريري المؤقتة. وذلك ليس بغريب عن العراقيين، إذ ظل نظام البعث مستغرقاً في موته السريري لأكثر من عقدين من الزمن.
إن التحليل السياسي الصرف لا بد أن ينتهي باستنتاج نهاياتٍ متشائمة للمشهد الكارثي الحالي. غير أن الغور في الديناميات الجدلية للسلوك الاجتماعي الذي ينضج متريثاً على عكس تقلبات السلوك السياسي، قد يجعلنا أقل تشاؤماً وأكثر انفتاحاً على المآلات الإيجابية المحتملة في المدى البعيد.
فالافتراض الذي أتبناه حول وجود نزعة يساروية اجتماعية كامنة في عموم المجتمع العراقي، يرشدني إلى أن العقلانية الاجتماعية في العراق يمكن استعادتها ببطء بتأثير وجود هذه النزعة اليساروية الحقانية المتجذرة بعمق في المنظومة القيمية للشخصية العراقية بسبب تراثها الثقافي العدالوي دينياً وطبقياً. وهذه النزعة غالباً ما ترتبط طردياً ببزوغ الهوية الوطنية الجامعة لكونها نزعةً عابرة للدين والمذهب والعرق والطبقة والمستوى التعليمي.
تؤكد تجارب الشعوب بقوة أن الهزائم الحربية الكبيرة تعقبها تبدلات عميقة في بنية السلطة السياسية، وفي خيارات الاقتصاد السياسي المتسيد، وفي مجمل المزاج الشعبي العام، حتى إنْ جاءت هذه التبدلات بتريث وبطء. ولذلك يبقى احتمال بزوغ الهوية الوطنية العراقية من جديد أمراً ممكناً، إذ أن تراجع شرعية النظام السياسي الطائفي الحالي من جهة، ووحشية الجماعات المتطرفة التي باتت تفرض سلطتها العنيفة على أجزاء واسعة من المحافظات ذات الأغلبية السنية الديموغرافية من جهة أخرى، قد يعيد الاعتبار السيكولوجي لشرعية الهوية الوطنية ضمن تهافت مريع لهويات فرعية فاشلة. وهنا قد تزداد بمرور الزمن احتمالات حدوث حراك شعبي مدني عابر للدين والمذهب والجغرافيا، لاستعادة الأمن والسلام والهيبة الوطنية.
هذا الحراك المرتجى يتطلب إطاراً تنظيمياً احتجاجياً له، عبر سعي عقلانيي العراق بمختلف صنوفهم، من ديمقراطيين وليبراليين ويساريين وقوميين ودينيين متنورين، للتحالف ضمن إطار جبهوي سياسي- ثقافي جديد عابر للأعراق والأديان والمذاهب والقبائل والمناطق، يكون بديلاً شرعياً وواقعياً للأوضاع السياسية الحالية المنتهية الصلاحية.
إن هذه النواة الجديدة يمكن أن تشكّل التكوين الجنيني الأولي للعراق القادم بتسامحه وسلمه الأهلي. فإذا كان المشهد السياسي الحالي بات يشكل الصفحة المحروقة الأخيرة من حقبة جرى فيها اعتماد الطائفية السياسية منهجاً لإدارة دولة كانت موحدة في هشاشتها وضعفها، فإن الصفحات القادمة لم يبتّ بعد بمآلاتها، وهي لا تزال تنتظر التشكل بإرادة صانعي الحدث من نخب وعوام.
فتقسيم البلاد ليس الخيار القدري الوحيد الماثل أمامنا، بل تنفتح السوسيولوجيا السياسية على آفاق متنوعة من بينها تراجع الوعي الطائفي المزيف وبزوع الوعي الوطني المنقذ.
(5)
من قال أن أحلام اليقظة لا تنقذ الشعوب من إحباطها وقنوطها ساعة الكوارث، لتنقلها إلى عالم الأمل والمحاولة؟ ألم يحلم العبيد يوماً أن يتحرروا؟ ألم يحلم الأوربيون يوماً أن يتوحدوا؟ ألم يحلم المرضى العقليون يوماً أن لا تثقب جماجمهم؟ ألم تحلم النساء يوماً بالمساواة بالرجال في الدساتير على الأقل؟
ليس لنا إلا أن نبقى نصون حلمنا العراقي، ونعلن كل يوم عن حقدنا الحكيم على طفيليات السياسة التي نهشت ألفتنا وحميميتنا نحو بعضنا، متعكزين على ذكرياتنا الأثيرة كشعب كان موحداً إلى حد كبير في مدارسه وجامعاته ومقاهيه وحاراته وأسواقه وآثاره وأغانيه ونكاته ومزاجه وأكلاته وزيجاته وآلامه وقهقهاته!
اليوم لا أرثي غياب العراق الذي عرفناه وتنفسناه واحترفناه في أعماقنا، بل أهجو قاتليه مزيفي الدين والسياسة والتأريخ، وأعلن زوال شرعيتهم الكامل من حياتنا إلى الأبد.
ليس لنا اليوم إلا أن نبدأ حلم استعادة العراق الذي جعلناه مهنتنا الوحيدة على مدى عقود طويلة ظلت آمالنا فيها عاطلة عن إيجاد وطن حنون ومؤكد ونهائي.
ليس ثمة ضمانات بالنجاح، لكننا لن نتخلى عن بديهية إننا يتامى في هذا الكون، وإننا ليس أكثر من نطفٍ انحدرت من حامض نووي واحد لتجد في هذا العراق جسداً وبيتاً ومعنى وهوية!
No comments:
Post a Comment