Guest Contributor, Dr. Faris Kamal Nadhmi, is a specialist in the social psychology of radical movements and the author of many books on radical Islamism. He is professor of social psychology at Salahiddin University, Arbil, Kurdish Regional Government, Iraq. This article was published in al-Mada newspaper, March 14, 2015
قبل أي تحليل،
لا أملك إلا أن أجاهر بأنني لا أستطيع أن أفهم التطرف الديني مجهرياً إلا على أنه
قشرة خارجية تخفي في جوفها جرثومة رأس المال الريعي أو الطفيلي أو الاحتكاري! كما
لا أستطيع أن أفهم العقلانية والاعتدال إلا على أنها نتاج سيكولوجي تراكمي ومتريث وبعيد
المدى لاقتصادٍ منتج يهتدي بضرورات العدل الاجتماعي النسبي!
الدوعشة اختراع اقتصادي كوزموبولتي
يُراد بــ"الدَوْعَشَة"
كل بنية نفسية تبيح إطلاق نزعات العنف والجنس والتملك والتحكم إلى أقصاها دونما
رادع ضميري، اشتقاقاً مصدرياً من الفعل "دَوْعَشَ- يُدَوْعِشُ" المستلهم
من كلمة "داعش" التي باتت المختصر الاصطلاحي واسع الانتشار لما يعرف
بـتنظيم "الدولة الإسلامية في العراق والشام". وسيتم التوسع تفصيلياً
بمفهوم الدوعشة في السطور القادمة من هذا النص.
لتبيان الأساس
المادي لهذا الاعتلال النفسي المسمى بالدوعشة، يجدر أولاً التوكيد بأن الصحة
العقلية المجتمعية تستمد نسغها من الإدارة الرشيدة لعلاقات العمل والإنتاج التي تخفي
في طياتها الطابع الاجتماعي للإنسان بوصفه قيمة معرفية- أخلاقية. فكلما انهمك
الإنسان في نشاط اقتصادي يومي ذي طابع أقل طفيلية وأكثر استقلالية وأرقى استخداماً
لقشرته الدماغية، صار مرشحاً أكثر أن يخرج من طفليته البدائية إلى عالم النضج
وإدراك الوقائع دونما إسقاطات رغبية أو تطهّرات عدائية.
فجلُّ الصراع
اللاهوتي الوحشي والجدال اللفظي والعقائدي المستميت الذي بات ينخر رؤوسَ ملايين
الناس كل يوم في الشرق الأوسط، ليس في النهاية أكثر من وقود ساخن لصاروخ "توما
هوك" يطلقه عقل أمريكي بارد عبر البحار والمحيطات، ليقبض ضعف ثمنه بعد قليل
مقتطعاً من ثروات هؤلاء الناس ومستقبل أبنائهم. فالحرب الجوية الحالية التي تشنها
الولايات المتحدة الأمريكية وحلفاءها ضد تنظيم الدولة الإسلامية في العراق وسوريا،
تشبه عراكاً بين مجنون متأنق ومخبول رث، أو قل بين سيكوباثي متحذلق وسادي مفضوح
(1).
ومثلما كان
الكهنة والأباطرة عبر التاريخ يروجون للخرافات ويوظفون النصوص الدينية المجتزأة من
سياقاتها النسبية ليستعبدوا البشر بدافع خوفهم من المجاعة والمرض والموت، فإن لعبة
دفع الناس اليوم الى الاصطراع من أجل "احتكار" الله
و"استثماره" و"امتلاكه"، تنجح وستبقى تنجح في إنتاج العبودية
الاجتماعية للسماء بوصفها (أي هذه العبودية) تمظهراً شكلياً يخفي وراءه عبودية
اقتصادية مريرة بين طرفين بشريين: مالكٌ لسلطة التكنولوجيا وتقنيات صنع الحدث،
ومملوكٌ محروم ومغترب عن ذاته وغارق في وهمه وعجزه!
وبرؤية
سيكوسياسية أكثر تحديداً: أليس انتشار التطرف الديني عموماً بشقيه المجتمعي
والسياسي، ظاهرة لا عقلانية يفسرها الاقتصاد السياسي الاحتكاري المبني على عدّ
البشر كائنات سلعية لا آدمية، يتم إفراغها تدريجياً من مشاعر الإخاء الجمعي وحقنها
بمصل الاحباط والاستلاب حد دفعها للبحث عن أكباش فداء تفرغ فيها شحنات الغباء
والعنف المكدسة؟!
ألم يؤدِ إصرار
الاحتلال الأمريكي للعراق 2003م على تشجيع التيارات المتأسلمة المفتقرة لبنية
اقتصادية منتجة والفاقدة لأي قاعدة معرفية متنورة من جهة، وتهميشه وعزله للتيارات
المدنية وكفاءات الطبقة الوسطى المستنيرة المالكة لمهارات بناء الدولة اقتصادياً
وسياسياً وثقافياً من جهة أخرى، إلى النهاية "المنطقية" الماثلة اليوم
ببزوع عصر "الخلافة الإسلامية" القائمة على حتمية تطهير العالم
"الكافر" بوسائل النكاح الجمعي وجز الرقاب ومحو كل ما يدل على وجود
تراكم حضاري بشري عبر الزمان والمكان؟!
أليس تنظيم داعش
بنسخته الجينية العراقية نتاجاً لتلقيح بويضة الإسلام السياسي المحلي المفتون
بفكرة تخطئة وتصفية الآخر الذي ينازعه على امتلاك الله، بحيمن السمسار الرأسمالوي
الباحث عن أسواق لتصدير السلاح واستهلاكه، بوصفه (أي السلاح) الوسيلة
"المثلى" لحل المشكلات الفقهية الكبرى؟! ولذلك ليس مستغرباً أن عدداً من
قادة القاعدة وداعش قضوا شوطاً من حياتهم في السجون الأمريكية في العراق بعد سنة
2003م حيث جرى فيما يبدو تأهيلهم ضمن النشاطين التثقيفي والتنظيمي لهذه المنظمات
تحت سمع وبصر السلطات العسكرية والاستخبارية الأمريكية (2).
"داعش"
وقبلها "القاعدة" ليسا أكثر من ظاهرة اقتصادية سياسية تقتات سيكولوجياً
على خزعبلات دينية، وجدت – ضمناً أو صراحة- لتشغيل معامل السلاح وإنتاج الرفاهية
الأنانية لصناع القرار العالمي "الحريصين" جداً على "مكافحة"
الإرهاب، ومن يتحالف معهم موضوعياً من كومبرادوريات محلية فاسدة.
فأي استبداد
سياسي أو نزعة دوعشية في الدولة أو المجتمع في التاريخ الحديث، لم تكن إلا نتاجاً
لإخفاق السلطة في امتصاص رأس المال الاقتصادي أو البشري على نحو عقلاني ثم إعادة
إنتاجه بصيغة علاقات اجتماعية متطورة، كما هو الحال مع التجربة الهتلرية (رأس
المال الصناعي المنتعش) والتجربة الستالينية (رأس المال البشري الحالم) والتجربة
الصدّامية (رأس المال النفطي المفاجيء) ومؤخراً التجربة الإسلاموية في العراق بعد
2003م (اقتصاد ريعي مطلق يحميه احتلال كولونيالي).
وهذا الإخفاق
منذ لحظته الأولى ما كان ليستمر لو لم تدعمه ايديولوجيا إيهامية نابعة من غيبيات
عِرقية أو طبقية أو لاهوتية ذات منشأ محلي أو عولمي، كانت في جوهرها نتاجاً
ثقافياً ساكناً ومتخشباً لمراحل سوسيوسياسية متأزمة سبقتها.
الدوعشة نتاج ثقافي شرق أوسطي
بتحييد العامل
الكوزموبولتي الخارجي المشار إليه قبل قليل، وليس إلغائه، يقفز إلى واجهة التحليل
العاملُ السياسي المحلي بأبعاده الثقافية والاقتصادية المتلاحمة وظيفياً بالبنية
النفسية للجماعات المتصارعة على السلطة في سوريا والعراق تحديداً.
ولأن الدوعشة –
فكراً وممارسات-نشأت أولاً في العراق بعد سنة 2003م، ثم انتقلت إلى سوريا لتعود
بعدها إلى العراق، فلا بد أن يبرز استفهام تعليلي: هل يمكن بالفعل قطع الصلة
السببية بين سلطةٍ قامت على مبدأ التمذهب والتطييف والتديين في تأسيس أركان دولة
ما بعد البعث، وبين نشوء تيارات تكفيرية اقتاتت على المبدأ ذاته ولكن بصيغة
"تطويرية" فاقت حدود الخيال في دمويتها "الإبداعية"؟!!
هل يمكن تبرئة
"فيكتور فرانكشتاين" العراقي - في السلطة والمجتمع معاً- من إثم تصنيعه
للمسخ الذي أحال حياته وحياة المدينة إلى فنتازيا للهلع والقتل الأعمى؟!
إن الشروط
الضرورية لإنتاج الدوعشة جرى تحقيقها عبر آليتين، أسهمت بهما معاً: سلطةُ أحزاب
المنطقة الخضراء المتأسلمة من جهة، وجمهورٌ مثخن بالأوجاع النفسية والتشوهات
الإدراكية من جهة أخرى:
1- آلية ثقافية: إذ ربطت هذه السلطة لأول مرة في تاريخ العراق المعاصر بين الشأن السياسي
اليومي والشأن الرباني الغيبي، إلى حد تجذير فكرة أن "شرعيتها"
مستمدة من "بديهية" تمثيلها للحق الإلهي، سيما أنه تمثيل تدعمه صناديق
انتخابية تمتليء كل أربع سنوات ببطاقات الوعي الزائف! فأصبح معيار الثقافة
السياسية السائدة ليس التنافس الاجتهادي على تطبيق برامج دنيوية واقعية ذات طابع
إصلاحي مؤسساتي مدني، بل أمسى المعيار الوحيد -صراحة وضمناً- هو توظيف كل ديناميات
الذاكرة التأريخية المُتَخيّلة، سلمياً وعنفياً، لإقصاء الآخر (الشيعي أو السني)
بوصفه "غير شرعي" يفتقر للأهلية اللاهوتية.
فَوِلِدَ داعش من جراء تلاقح سياسي غير شرعي بين
"شرعيات" أساطيرية، إذ وجد هذا التلاقح له رحماً خصبة في عقلية شعبوية
مُحبَطة ومتحاملة ومُستَلَبة ومجروحة الكبرياء وفاقدة لقيم التنوير والحداثة،
وظفتْ (أي هذه العقلية) فقهياتِ الدين السماوي ليكون الوسيلة "المثلى"
للتنفيس عن إخفاقاتها الأرضية المتمثلة بالإفقار والإذلال والترويع طوال أكثر من
أربعة عقود اصطبغت بالدم المؤدلج بحروف الوهم القوموي حيناً والأسطرة اللاهوتية
حيناً آخر.
2- آلية اقتصادية: إذ ورثت هذه السلطة اقتصاداً طفيلياً هائلاً في ريعيته وافتقاره إلى أدنى
حدود الإنتاجية والعقلنة، فتدفقت هنا غرائزيتها غير المنضبطة لا أخلاقياً ولا
معرفياً، لتجد في تسييس الله وسيلة "مثلى" لاقتسام جثة الدولة وبيعها في
أسواق الفساد المزدهرة، سنة بعد أخرى، وأزمة بعد أخرى. ومن هنا نشأ ما يسمى في
الأدبيات السياسية بأسواق العنف أو اقتصاد الحروب الأهلية، وما يمكن تسميته أيضاً
بـ"الاقتصاد المنتج للدوعشة"!
فالكومبرادورية
الطائفية الحاكمة في العراق اليوم هي دوعشة أخرى خلقها الاقتصاد السياسي المعولم
ليقايض بها "فائض الدم البشري" بأرصدة خيالية من "فائض
القيمة" المكدس هناك في خزائن الرفاهية السرمدية خلف البحار. وهل هناك من
وسيلة لتحقيق هذه المقايضة أفضل من ابتزاز الناس دينياً ومذهبياً لينهشوا بعضهم
بعضاً توقيراً لإله "سينصفهم"
بعد مماتهم؟!
تتسم هذه
الكومبرادورية باستعداد منعدم الضمير ومنقطع النظير لهدر أي مقدار من الدماء مهما
كان جسيماً أو فائضاً عن المتطلبات المألوفة لأي صراع سياسي حاد، فقط لتضمن أرصدة
مالية أو ملكيات عقارية تفوق هي الأخرى السقف الأعلى لأي حاجات بشرية مهما كانت
متضخمة. وهي بذلك اجتهدت طوال إثنتي عشرة سنة من حكمها لإنتاج وإعادة إنتاج أشرس
أنواع المحاصصة الطائفانية السياسية الرثة، بسبب إدراكها الفطري - والمدروس
لاحقاً- أن تجذير "الوعي الزائف" لدى الناس وإشغالهم بخرافات دينية
حلزونية المسار هو السبيل "الأمثل" لاستمرارها بوصفها النمط
"الوحيد" و"اللا بديل عنه" من أنماط السلطة
"الممكنة" و"الملائمة" لأوضاع العراق.
فائض الدم
العراقي اليوم - والسوري والشرق أوسطي عموماً- صار له تأسيساته الموضوعية
"الضرورية" و"الثابتة" ضمن معادلات الاقتصاد الاحتكاري العابر
للجنسيات والثقافات. فالتطور المذهل لقوى الإنتاج التكنولوجي وما رافقه من تطور
نسبي في الوعي الحقوقي للبشرية، أفرز تحدياتٍ جسيمة أمام هذا الاقتصاد المُصِر على
إدامة نمط غير عدالوي في علاقات الإنتاج الاجتماعية (فقر وحرمان وحروب وأزمات
هوية)، الأمر الذي يدفع باستمرار أقطابَ الرأسمال العولمي والشعوبَ المبتلاة
بالوعي الزائف على حد سواء، إلى الانخراط قسرياً في إدامة هذه العلاقات الإنتاجية
المضطربة غير المتـناسبة مع التطور العقلاني في قوى الإنتاج، عبر تأجيج التطرف
النفسي (ومنه التكفير الديني والتعصب العِرقي) بوصفه بنية ثقافية تمارس تفريغاً
عُصابياً "لا مناص منه" لحضارة لم تصل بعد إلى ترتيبات راسخة لتنظيم
العلاقة المتزنة المنشودة بين النظام الاقتصادي العادل والسيكولوجبا البشرية المتعافية.
ولكن سواء كانت
الدوعشة اختراعاً كوزموبولتياً لرأس المال الاحتكاري، أو نتاجاً ثقافياً محلياً
لإسلام سياسي يؤسطر الحياة ويفسد الاقتصاد، أو كليهما معاً، فإنها تبقى في الوقت
ذاته نتاجاً لطبيعة بشرية أكثر شمولية تستحق التوقف والتأمل!
الدوعشة تعبير سيكولوجي عن طبيعة بشرية
قد لا يكون
مبالغاً القول أن الطبيعة البشرية في الشرق الأوسط باتت اليوم تواجه امتحاناً
ضميرياً عسيراً يعادل الامتحان الذي واجهته أوربا على يد النازية في ثلاثينات
وأربعينات القرن الماضي.
هذا الامتحان
القديم الجديد تزامنت بداياته مع اشتداد النشاط الهدمي والاستباحي والخارق لكل
التعاقدات الاجتماعية والأخلاقية المألوفة، الذي مارسه تنظيم داعش ابتداءً من سنة
2013م وصولاً إلى مجازره الحالية في العراق بعد احتلاله الموصل في 9/ 6/ 2014م، إذ
يعاد من جديد اليوم طرح السؤال الأزلي بكل مدياته الفلسفية: هل الطبيعة البشرية
خيّرة أم شريرة؟ وإذا كانت خيّرة فهل بسبب جوهرها الفطري المطلق، أم بسبب الضوابط
الحضارية المتراكمة عبر العصور؟ وإذا كانت شريرة، فكيف أمكن للبشرية إذن أن تصنع
كل هذا الخير الذي بات يملأ حقول العلم والجمال في عالمنا؟
إن تداعيات الأحداث
السياسية الدامية في العراق وسوريا مؤخراً، وتورط جهات أخرى دولتية ومجتمعية فيها
إلى جانب داعش، وانهماك أكثر من (60) دولة خارج الشرق الأوسط في الحرب المعلنة ضد
داعش، فضلاً عن المناخ النفسي الكابوسي الذي بات يلف حياة ملايين الناس في المنطقة
من جراء هذه الممارسات الوحشية الصادمة لمسلماتهم التقليدية حول الحدود
"المعقولة" التي يمكن أن تبرر ضمنها عمليات القتل أو الترويع؛ إن كل ذلك
يستدعي التأمل والشعور أن ثمة دوعشة مريعة ومعلنة أخذت تطال مجمل البنية
السلوكية للمجتمعات والدول المنخرطة في الصراع، وعدم اقتصارها على تنظيم الدولة
الإسلامية فحسب. ولعلها كانت دوعشة كامنة أو مستترة جرى تحفيزها بفعل التطرف
الديني الدموي الذي بات يُبث فديوياً إلى داخل كل عقل.
وعلى هذا، تغدو
الدوعشة أولاً وقبل كل شيء، ظاهرة نفسية معبّرة عن بواطن سحيقة قد تبدو محيرة في
الطبيعة البشرية. وهذا لا يتعارض مع نسختها الدينية السياسية المعلنة حالياً
بوصفها توجهاً إسلاموياً سلفياً جهادياً نحو إقامة دولة الخلافة العالمية على أسس
فقهية تكفيرية ترى في الوسيلة الدموية تبريراً لغاية "مثلى" وهي إقامة
حكم الله على الأرض عبر تطبيق الشريعة، إذ لا تشكل هذه النسخة إلا تمظهراً واحداً
لظاهرة متعددة الكوامن والأوجه.
كما لا يتعارض
هذا التحليل المنفتح مع الرؤية المتحفظة الداعية لضرورة تضييق دراسة داعش بوصفه
حلقة نسبية في سلسلة التطور السياسي في الشرق الأوسط ليس إلا دون تعميمه ليصبح
ظاهرة عابرة للتاريخ والمجتمعات، إذ يتكامل التحليلان دون أن يفند أحدهما حجج
الآخر.
ولذلك، فإن
سياق التشريح الحالي سيتحدد بالمنظور النفسي–السياسي الأكثر شمولية، والذي يعرف
الدوعشة بأنها: إطار سلطوي منظم، أو حتى فردي منعزل، يبيح إطلاق نزعات العنف
والجنس والتملك والتحكم إلى أقصاها دونما رادع ضميري، ضد أي جماعات أو أفراد يتم
تصنيفهم خارج هذا الإطار، إذ يجري تسويغ هذه النزعات وشرعنتها بغطاء عقائدي تسلطي
يحتكم هرمينوطيقياً إلى نصوص مبسطة ذات طابع إطلاقي منقطع عن نسبيات العالم
وحقائقه. وبذلك يصبح هذا الغطاء وسيلة لهدم الاجتماع البشري المنضبط، باستخدام
مسميات "مقدسة".
إن الدوعشة
بهذا المعنى لا تعدّ أمراً طارئاً أو جديداً في التاريخ البشري القديم والحديث،
ومنه التاريخ الإسلامي المليء بالانتهاكات والقسوة والتنكيل بآدمية الإنسان حد
حرقه أو تقطيعه على يد بني جلدته بدواعي دينية أو دنيوية، فضلاً عن التاريخ الدموي
للمسيحية في العصور الماضية، وعموم الأنظمة الاستبدادية والكولونيالية التي حكمت
مصائر الناس لمئات السنين ومنها جرائم الاحتلالين الأمريكي في العراق والإسرائيلي
في فلسطين؛ إلا أن فرادة الحال هذه المرة تتأتى من اللحظة المتقدمة الحالية التي
يمر بها التطور الاجتماعي والحقوقي للبشرية، إذ قطعت المجتمعات السياسية المحلية
والإقليمية والدولية شوطاً توعوياً وقانونياً بعيداً نحو توقير حق الحياة وصيانته
بيولوجياً ومعتقدياً، لتفاجأ اليوم بصدمة ضميرية غير مسبوقة عبر مشاهد حز الرقاب
وتفجير الرؤوس وحرق الأحياء وسبي النساء، تُصور وتُبث باستخدام أحدث التقنيات
الرقمية!
إن تفسير بروز
ظاهرة الدوعشة الحالية يتطلب الإلمام أولاً بجذورها التأسيسية السيكولوجية التي
منحتها كل هذا الزخم الجارف من قوة التأثيرين: المعنوي في نفوس أتباعها، والمادي
في الواقع الجيوسياسي؛ إذ تتفاعل جدلياً ثلاثة جذور يكمّل أحدها الآخر، هي:
الجذر الأول: الإباحة الطفلية للمحرمات.
الدوعشة تنكص بمريديها رغبياً ولاشعورياً إلى منطقة الإباحة الطفلية
للدم والجنس والمِلكية، خارج الإطار العُرفي والقانوني المتفق عليه آدمياً. إنها
تحقق دفعة واحدة أعزَّ ما يشتهيه الإنسان الهدمي دونما إلزامات أو محددات أو
تقييدات، إذ تغدو كل التابوات مباحة ومتاحة بل ومستساغة وأثيرة لكونها تعبّر عن
نزعة "أخلاقوية" لاستعادة "شرع" الله على الأرض.
وهذه الإباحة هي نتاج سلوكي لتفجر الدوافع العدوانية العقابية غير
المؤنسنة، بتأثير ميكانزمات التبرير والإزاحة حينما تمتزج دينامياً بالحرمان،
والكبت، والإحباط، وأزمة الهوية الفردية والجماعية.
إنه الزخم الهائل للدوافع البدائية غير المؤنسنة حينما تجد إطاراً
تبريرياً "متيناً" يضمن انفلاتها الجامح دون تردد أو تأنيب من ضمير،
إذ تجري إزاحة طاقة الغضب الكامنة في أعماق المجند الداعشي بفعل الإحباط والكبت
المتراكمين سيما في طفولته ومراهقته، وتوجيهها نحو هدف بديل "يستحق"
التكفير، بعد أن تكون الصورة "المثالية" للإيمان قد جرى نحتها دفاعياً
على نحو متقن ومتطرف جداً لكي يفشل الآخرون بتلبيتها فيصبحون حتماً
"مستحقين" للعقاب والتأثيم!
فالمباح هنا ليس مطلوباً لمتعته أو لذته، بل فقط لكونه تعبيراً
"ضرورياً" عن وسيلة تضمن تحقيق حكم الله الذي طال انتظاره. وهكذا فقطع
الرؤوس واغتصاب الفتيات واسترقاق النساء وتجنيد الأطفال قسراً وتهجير غير المسلمين
أو ذبحهم وغنم أملاكهم وحرق الكتب وتهديم الآثار، ليست تنفيساً أو إشباعاً لرغبات
عدائية مريضة بالسيادة والتحكّم، بل تنفيذاً لا مفر منه لأمر "رباني"
يتيح تكفير الآخر ومحوه إسراعاً ببسط "الشرعة" الإلهية بإقامة الدولة
المنتظرة عابرة الجنسيات.
هذا الانفلات يُبطل في لحظة واحدة كلَّ إنجازات الترويض السلوكي الذي قضت
البشرية آلاف السنين تعلمه لأبنائها، وهو يذكّرّنا بهشاشة الترتيبات الحضارية
التي تعاقد عليها الناس عبر الزمان، إذ تكفي أفكار خرافية امتزجت بأعماق مُهانة
ومحرومة ونزعات سادية قاسية في لحظة اقتصادية سياسية مفصلية، كيما تتوقف القشرة
الدماغية عن ضبط الدفقات اللاعقلانية الغاطسة في الأعماق، فيستغرق الجميع في دوعشة
لا متناهية من الأفعال وردود الأفعال المنفلتة من أي تراكم حضاري مفترض.
فما أن يكتمل الانفلات الجمعي للدوافع الخام من قمقمها، حتى يكتسب الجنون
"ضروراته" الايديولوجية التي تجعل منه نمطاً عقلياً يومياً مالكاً
لـ"شرعية" الوجود والديمومة. نستحضر هنا ما كتبه "فرويد"
1907: "إن الحدود بين ما هو طبيعي ومريض في الحالات النفسية هو تقليدي ومألوف
أحياناً لدرجة أن بعضنا يواجهه مراراً في اليوم الواحد".
وهنا يجدر التمييز بين منظومتين مولدتين لأسباب الإباحة الطفلية أو
الانفلات الغرائزي لدى مجندي داعش، بحسب الخلفية الاقتصادية والثقافية للبلدان
التي جاءوا منها:
1- الدواعش الشرقيون:
أغلبهم شبان قادمون من بلدان عربية وإسلامية ونامية تجاوز فيها الحرمان (بشقيه
المطلق والنسبي) والاستبداد السياسي والقهر الاجتماعي والكبت الجنسي
الحدودَ الضرورية لاحتفاظ أفراد الفئات المستلبة هناك بسلامتهم الإدراكية وصحتهم
النفسية، فضلاً عن الطابع الجمعاني Collectivism القطيعي
لهذه المجتمعات إذ يفتقر فيها الإنسان (الشاب) المقهور إلى إمكانات تحقيق فردانيته
النفسية وطموحه الذاتي بمعزل عن السلطة الأبوية للدولة أو الأسرة، ما يعني إحباطه
الوجودي، ونقصه المزمن، وخوفه المَرَضي من المرأة، وتعطشه الدفين لأي دور
اجتماعي واضح يمنحه الأهمية والقيمة والقوة بصرف النظر عن مدى بربرية ذلك الدور أو
إنسانويته.
وهنا توفر الدوعشة أرضية "واقعية" لتحقيق كل هذه الدوافع المعطلة
دفعة واحدة ضمن إطار أخلاقوي - لفظي يبيح ويسوّغ تجريد الآخرين الخارجين عنه من
آدميتهم Dehumanization حد تطبيق
العقوبات الجزائية والجنسية والمالية عليهم، بما يشبع مكبوتاتِ المجند كعقدة النقص
وكره المجتمع وتركيع المرأة من جهة، ويمنحه أهمية الفعل وفرادة الدور
و"قدسية" المساهمة في تأسيس "خلافة" الله على الأرض من جهة
أخرى. فتتوارى السيكوباثيا المخزية خلف الجلباب المعتم واللحية الوقور،
وتصير القسوة غير المحدودة وتهشم الضمير وخرق كل التعاقدات البشرية الأزلية، إنما
علاماتٍ "منبئة" بإلتحاق شؤون الأرض بنواميس السماء.
2- الدواعش الغربيون:
شبان قادمون من بلدان أوربا وكندا وأمريكا واستراليا، يشتركون مع الدواعش
الشرقيين في بعض جوانب الحرمان الاقتصادي، فيما يتفردون بمعاناتهم من الاستبعاد
الاجتماعي والتمييز الديني أو العرقي بحكم انحدار معظمهم من أقليات شرقية مسلمة إذ
هاجر آباءهم أو أجدادهم إلى الغرب منذ أواسط القرن الماضي، ما جعلهم مهمشين على
تخوم تلك المجتمعات دون اندماج حقيقي بها.
لكن أزمة الهوية الثقافية تلك لم تترافق على الأقل مع حلول جزئية للأزمة
الوجودية الفردية التي يعاني منها أولئك المهاجرون. فصحيح أن المجتمعات الغربية،
وبحكم تطورها الليبرالي والاقتصادي والتكنولوجي، تمارس درجة أقل بكثير من جمعانية
الشرق وقطيعيته، بل إنها تحفز انبعاث الفردانية
Individualism لدى
المهاجرين وتقوي مشاعرهم بأهميتهم الذاتية، لكنها في الوقت ذاته تحرمهم من فرصة
الحصول على بيئة آمنة للتعبير عقلانياً عن هذه الفردانية المتنامية، أي تمنحهم
خيار الانعتاق من القطيع ولكن دون أن توفر لهم بديلاً انتمائياً يحتوي غربتهم، إلى
حد دفعهم للامتثال للإغواء الدوعشي الذي يلبي لهم حاجتين دفعة واحدة:
أ- تحقيق
الهوية الجماعية المعطّلة عبر حلم رباني "مثالي" عابر للجنسيات.
ب- وتحقيق
الدافع الفرداني لكل مجند بأهمية دوره ومعنى وجوده، أي "مداواة" عجزه
عبر تمكينه من ممارسة سلطة الإماتة والإحياء بلا حدود.
وهاتان
التلبيتان كلتاهما تستمد وقودها المحرك من فكرة الآخر "الآثم" الواجب
تكفيره وإزالته. ويعيدنا ذلك من جديد إلى حقيقة أن نمط الحياة الرأسمالي غير
الرشيد سيبقى ينتج اللاعقلانية المجتمعية بأدوات اقتصادية "عقلانية"، عبر
أنموذج "الإنسان ذي البعد الواحد"، المغترب والمجوف حضارياً، والمصاب في
الوقت ذاته بتخمة التقانة والمكننة والحاجات المصطنعة الزائفة بحسب هربرت ماركوز.
فالحرية الفردانية هنا تفتح مسارات "واعدة" للمرض النفسي والشخصية
الهادمة المنتقمة.
وهكذا فإن الدواعش الشرقيين يعانون من الحرمان الاقتصادي والاستبداد
السياسي والظلم الاجتماعي والكبت الجنسي وقطيعية المجتمع القامع لفردانيتهم؛ فيما
يعاني الدواعش الغربيون جزئياً من الحرمان الاقتصادي، وكلياً من الاستبعاد
الاجتماعي ومن كبت فردانيتهم المتنامية الباحثة عن تحقق. وتتكامل الدوعشتان في
إطار أزمة هوياتية مريرة ببعديها الفردي والجماعي، إذ تغدو الإباحة الطفلية
للمحرمات نوعاً من "حل" نفسي لهذه الأزمة التي عجز النظام الاجتماعي في
الغرب والشرق معاً عن الإحاطة بها لأسباب بنيوية تتعلق بنمط الاقتصاد السياسي
القاصر عن توليد بنية اجتماعية- فكرية عقلانية تمتص المكبوتات والحرمانات
والاستبعادات الفائضة وتعيد إنتاجها بشكل إنسانوي.
الجذر الثاني: اليقين
الطاغي بالشرعية.
تكتسب الدوعشة "أحقيتها" و"ديمومتها" من تآكل
الشرعيات السياسية الأخرى المجاورة لها، فيما يمكن تسميته بفراغ الشرعيات. وهي
بذلك تمسك بأقوى عناصر الوجود الاجتماعي قاطبة: أي إحساسها الطاغي
بـ"شرعيتها" العابرة لحدود الزمان والمكان.
فأنصار الدوعشة كانوا على مر التاريخ يعانون من "تشوهات إدراكية"
إذ يتماهون بعقيدة تسلطية Authoritarian توفر لهم أقصى درجات اليقين المطلق (أوهام العظمة)
بـ"صوابيتهم" و"حتمية" انحناء الأحداث لإراداتهم. وهم هنا
يعيدون إنتاج الماضي -اللاهوتي أو الدنيوي- بمسمياته ووقائعه المُتَخَّيلة، بصيغة صور
نمطية محرّفة عن حاضر لا يمكن أن يستقيم إلا على مقاساتهم "الشرعية"،
حتى لو اضطروا إلى مراكمة جبال من الرؤوس المقطوعة لتتحقق تلك المقاسات؛ إنهم
يحلبون الذاكرة التأريخية لشعوبهم ليرشفوا منها عسل اليقين بأن لا أوصياء غيرهم
على "الحقيقة" و"الفضيلة".
وبنظرة سريعة إلى الواقع العراقي الراهن، يتضح اندثار كل الشرعيات
الوطنياتية الممكنة، بضمنها تآكل شرعية الدولة الفاسدة، بسبب غياب أية مشاريع
فكرية أو سياسية أو جمالية يمكن أن تقارب حاجات الناس أو تؤطر سلوكهم الجمعي نحو
التمسك الثابت نسبياً بشرعيات عقلانية تستحق الولاء والدفاع عنها، بما فيها غياب
اليسار العراقي المعتل ذاتياً وموضوعياً.
فبات خيار الدوعشة (دولتياً ومجتمعياً) ملاذاً متاحاً لإنسان صار يرى في
القطيعية البدائية والإباحة الطفلية، الشرعية الوحيدة المتبقية له قبالة تهالك
شرعيات الانضباط المؤسساتية وعجزها المزمن. فالدوعشة بهذا المعنى تنطبق على
الأطراف المتقاتلة الثلاثة الساعية لبسط شرعياتها اليوم ضمن الجزء العربي من
العراق حصراً، إذ لا يتسع المقام الحالي لتحليل مسألة الشرعيات في سوريا وإقليم
كردستان العراق:
1- "شرعية" الخلافة الإسلامية: تنظيمات
سلفية جهادية، وضباط وعناصر من النظام البعثي السابق، ومجندون من مناطق ذات أغلبية
سنية ديموغرافية، مبتلون بمرض متلازمة "الشيعة/ الصفويون/ إيران"، ممن
جرت دوعشتهم بحكم ارتباطهم بمصادر تمويل إقليمية، وإحباطهم ويأسهم وحقدهم على الدولة
الطائفية بعد سنة 2003م.
2- "شرعية"
الميليشيات: تنظيمات عسكرية خارجة من رحم أحزاب الإسلام السياسي الشيعوي، مبتلاة
بمرض متلازمة "السنّة/ البعث/ داعش"، وممولة رسمياً من الدولة، ومدعومة
لوجستياً من إيران. وهنا يجب التنويه أن هذه الممارسات الميليشياوية المنفلتة تعد
إبناً غير شرعي لظاهرة "الحشد الشعبي" التطوعية التي
وجدت أصلاً لمقاومة التطرف التكفيري وإسناد القوى الأمنية الرسمية.
3-
"شرعية" الدولة الطائفية: ما تبقى
من القوات الأمنية الحكومية المنخورة بالفساد والتعصب الطائفي، والمشتتة بين فقدان
الحس الوطني والافتقار لمهنية الأداء.
فبخلاف الحيوان، ألزمت القشرة الدماغية البشرية كلَّ إنسان بنمط معين من
الوعي، إذ لا يستطيع البشر الكف عن ممارسة وعي معين بوجودهم الاجتماعي فضلاً عن
الطبيعي طبقاً لدرجة تطورهم العقلي التراكمي ونوعية المحددات الموقفية المحيطة
بهم. وهذا الوعي يرتبط بنزعة بشرية تبريرية غالبة هي ميل الناس جزئياً لتسويغ
الأوضاع القائمة المحيطة بهم – حتى إنْ كانت مؤذية لهم- وإضفاء الشرعية عليها في
مسعى توهمي منهم لتحقيق الاستقرار والنظام في حياتهم، وهذا ما يسمى بـ"
نزعة "تبرير النظام"System
Justification.
وحينما تتفوق تلك المحددات
الموقفية -لجسامة كارثيتها وسطوتها وقسوتها- على الإرث الحضاري المؤنسن لأي جماعة
بشرية، تشتد نزعة تبرير النظام هذه، فتنبثق الدوعشة بوصفها نمطاً طفلياً من أنماط
الوعي البدائي المقتات على إلحاحٍ لا يقبل التأجيل لدوافع العنف والقسوة المستترة
بـ"شرعية" هوياتية عقائدية متينة.
وهنا، يوفر التديين السياسي أكثر البيئات المؤاتية لازدهار الوعي المزيف
والمقلوب بغايات الحياة وآفاقها المتنوعة، لكونه يتقمص "شرعية" السماء،
ثم يسعى عُصابياً لتمريرها من خرم أبرة دنيوية غير متفق عليها أصلاً، عبر استبعاده
لأي احتمال آخر يقع خارجه بوسائل التكفير والإبادة المستندة إلى ماكنة ضخمة من
الألفاظ والعبارات الساذجة المدفونة في طيات الكتب الصفر الجاهزة في كل عصر لإنتاج
الدوعشة بنسخة جديدة (3).
أما الفرد العراقي المدني – بنزعته العلمانية الاجتماعية-، فيبرز هنا بوصفه
ضحية مجانية للاقتتال بين هذه الأطراف الثلاثة المحمومة بفرض شرعياتها، إذ يجري
التربص به وترويعه وتطييفه وزجه في مواقف مصيرية دامية في محاولة لاستدراجه ليصبح
جزءً فاعلاً من الدوعشة -بأطرافها الثلاثة- ودوامتها الآسرة والمتغلغلة في كل
مفاصل حياته.
إلا أن المؤشرات اليومية الملموسة تؤكد أن الدوعشة لم تنجح أن تكون خياراً
أثيراً لدى ملايين العراقيين بعد، بل أن ثمة شرعية رابعة لفظية مبهمة لم تتضح
عناصرها الاحتجاجية التفصيلية بعد هي في طور التبلور في وعيهم السياسي العام، لكن
أقل ما يُقال عنها أنها ستكون نتاجاً سوسيولوجياً متريثاً لواقع آني فاقد الشرعية!
الجذر الثالث: "يوتوبيا" الزمن المطلق
بترويجها
ليوتوبيا "الخلافة الإسلامية" العابرة للجنسيات والعصور والجغرافيا وما
يستتبعها من عودة "حتمية" إلى "النبع الصافي" للإسلام، تكون
الدوعشة قد أفلحت بتجميد الزمن في نفوس مجنديها على لحظة "مقدسة" لا
تتبدل ولا تهرم.
فحين يختل الإدراك
الزمني إلى هذه الدرجة، أي يصير الحاضر ماضياً، والماضي مستقبلاً، بمعنى تغييب
الأبعاد الموضوعية للزمن، يتضاءل القلق الوجودي إلى أدنى مراحله لدى هؤلاء
المجندين، ويكتسب حلم "الدولة الإسلامية" العالمية زخماً تعويضياً
هادراً في وجداناتهم الباحثة عن عزاء هوياتي يتوحدون به لا شعورياً ليمنحهم القيمة
والمكانة اللتين لطالما افتقدوهما في حياتهم قبل الالتحاق بالتنظيم.
وتشكل هذه
"اليوتوبيا" الفاقدة لبوصلة الزمن أقوى المبررات الأخلاقوية لتسويغ أي
إباحات طفلية يجد المجند نفسه "مضطراً" أو راغباً باقترافها حيال
المحرمات البشرية التقليدية. فمن هذا الهاجس التبريري ذاته، تستمد الدوعشة يقينها
الطاغي بشرعيتها من إحساسها أنها مخولة بلجم جموح البشرية العاقة (المسلمين وغير
المسلمين) وإعادتها إلى الحظيرة السلفية "الطاهرة" عبر تقطير الزمن
الفيزيائي كله دفعة واحدة ليغدو زمناً ربانياً يطال كل البشر ضمن مجتمع العدل
"المطلق" دون أي نسبيات ثقافية أو خيارات فردية يمكن أن تخرق
"سرمدية" الأحكام الشرعية.
ويستند هذا
الوهم المعتقدي بانتفاء نسبيات الأزمنة ومحو اختلافات العقول، إلى آلية دفاعية
جوهرها إسقاطات رغبية شاملة يمارسها العقل الدوعشي ليتلافى عجزه البنيوي عن مواجهة
حقائق أن الوجود الاجتماعي ليس بسيطاً إلى هذا الحد، وأن البشرية ليست قطيعاً
صامتاً وأعمى، وأن النساء لسن أوعية لفحولة الرجل، وأن التعددية هي أم البديهيات.
فهذه الحقائق تستحق عنده الإنكار والدحض بل والتهشيم أيضاً استناداً إلى نصوص
دينية محدودة يجري انتقاؤها من تراث غني بآلاف النصوص المناقضة لها، ثم ترديدها
ميكانيكياً دون تمحيص، ذلك أن مجرد سكوت العقل الدوعشي عن هذه الحقائق هو إقرار
مسبق منه بفشله الكامل في إقامة روابط سوية ولو محدودة مع المحيط البشري اليومي،
الأمر الذي يستدعي "حتماً" تشييد "يوتوبيا" كاملة تثبت
"بطلان" تلك الحقائق (4).
ويجري ترسيخ
إسكات مفهوم الزمن في عقل المجند الدوعشي المحتمل أو الفرد العادي على حد سواء،
عبر توظيف فاعل لحرب نفسية بعيدة المدى تتضمن الترويج عبر شبكة الانترنت لرموز
عيانية وأخبار مقننة ولغة جسدية مميزة وطقوس دموية، تعبر جميعاً عن فنتازيا الدولة
الإلهية التي "صارت" واقعاً على يد الخليفة ذي الأصول "الإبراهيمية
النبوية"، عبر هذا التكرار الوسواسي-القهري للأفكار.
فوحدة اللباس
القاتم، والالتزام الصارم بالزي "الشرعي"، وإطلاق اللحى الكثة
المتناثرة، وإبراز القوة الجسدية المتناسقة لـ"مجاهدي" التنظيم
ومنجزاتهم القتالية، ورفع رايته السوداء في كل مكان ممكن، والاستقواء بالأناشيد
المليئة بالحماسة اللاهوتية التكفيرية (5)، ونشر الأنباء المدروسة لإظهار أن كل ما
هو خارج التنظيم إنما يقع في دائرة الضلالة التي "سيجري" تطهيرها
قريباً، وبث تسجيلات فلمية لعمليات ذبح وحرق وجلد للخصوم المفترضين، كل ذلك يغرس
ضمناً في ذاكرة المتلقين فكرة صدمية مفادها أن البشرية كرهت أم رغبت،
"مقدّر" عليها أن "تستعيد" عصر الجهاد السلفي بوصفه الوسيلة
"الوحيدة" لإقامة سلطة الله على الأرض.
وهنا يشعر
المتلقي الكاره أن كل الشرعيات السياسية والاجتماعية التي عرفها في حياته باتت في
مهب الريح، فيصبح مرشحاً أن تصحو لديه نزعات دوعشية من نوع ما بوصفها الشرعية
الوحيدة المتاحة له للرد والمقاومة. أما المتلقي الراغب، فيتماهى
بـ"يوتوبيا" تغييب الزمن ومحو النسبيات إذ يجد فيها تنفيساً حقيقياً عن
نقصه وحرمانه وكرهه لذاته والآخرين وافتقاره لهوية تشاركية آمنة، فيسارع للانضمام
إلى "أنجع" وسيلة تضمن له تلهية كاملة عن مواجهة عجزه وبؤسه المريعين،
ولو بتفجير نفسه!
هذه "اليوتوبيا
الفاضلة" المعلنة هي الوجه الخارجي لنزعة هدمية باطنية أفرزها النظام
الاجتماعي في الشرق والغرب على حد سواء، إذ بني على اقتصاد سياسي أنتج أصناماً
تغريبية متعددة ليس أولها رأس المال الربحي، وليس آخرها مؤسسات دينية ترتزق من
تأبيد عبودية الناس لكلمات وحروف.
فالقيح النفسي
المتخثر في العقل الباطن للمقهورين المهانين أمام سلطة تلك الأصنام، غالباً ما
يمارس دينامياته التعويضية الانتقامية – سيما في ظل غياب إطار ليبرالي أو يساري للاحتجاج العقلاني- في التحول
إلى ايديولوجيا "مثالوية" يجري فرضها بالحديد والنار، إذ يشكل هدم
الخارج هنا أثمن مكافأة وأعز رجاء للداخل المهدوم سلفاً.
المآلات القادمة للدوعشة
بصرف النظر عن
طبيعة المسارات العسكرية التي ستتخذها الحرب الحالية المعلنة ضد تنظيم الدولة
الإسلامية محلياً ودولياً، ودرجة النجاح أو الإخفاق التي ستُحرَز ضده، فإن تحليلنا
للبنية الثقافية لمجتمعات الشرق الأوسط يشير إلى أن الآفاق القادمة قد تنطوي على
احتمالين: إما متزامنينِ أي يحدثان معاً على نحو تنافسي، وإما متناقضينِ يلغي
أحدهما الآخر منذ اللحظة الأولى. وكلا الاحتمالينِ أو المآلينِ له مبررات تكوينية
كافية.
المآل الأول
نمطي ستاتيكي التوجه، يرى أن الحرب الحالية ليست إلا مدخلاً لحروب إقليمية وأهلية
متشعبة قادمة يصعب تخيل فظاعتها في اللحظة الراهنة، ما دامت كل الجهود الآنية
تتركز على العمليات العسكرية والخطابات الإعلامية فقط دون أي إجراءات أو خطط
واقعية لإعادة رسم الخارطة الاقتصادية والسياسية للمنطقة بما يحقق تعديلاً جوهرياً
في ديناميات الهوية الاجتماعية يفضي إلى امتصاص التطرف وإشاعة الاعتدال في المديين
المتوسط والبعيد.
وهذا يعني أن
الدوعشة الحالية ليست إلا رحماً "منطقياً" و"لا مفر منه"
لتوليد دوعشات أخرى قادمة أكثر مأساوية وصدمية لنفوس الملايين العاجزين عن فعل أي
شيء سوى التعجب والتذمر ثم التكيف والاندثار. فما دامت أزماتنا السياسية
والاجتماعية والاقتصادية والثقافية في تراكم بالغ التعقيد، فلا مهرب من استمرار
تدفق هذا القيح النفسي بصيغ جديدة أشد تشطيراً للشخصية الاجتماعية والهويات
الوطنية المفككة أصلاً، عبر استنسال "حتمي" لايديولوجيات متوحشة سوف ترى
في داعش الحالي ليس أكثر من تلميذ خائب فات زمنه!
أما المآل
الثاني فديالكتيكي التوجه، يؤمن أن التقدم ينبثق من التخلف، والخير من الشر،
والنظام من الفوضى. فالصدمة الضميرية التي حققتها الدوعشة في نفوس الملايين في
الشرق الأوسط لن تذهب سدى، إذ إنها باتت تهيء المسرح العقلي من جديد لسنوات قادمة
ستشهد أفول الإسلام السياسي الطائفي، وانبعاث الأسئلة التنويرية العتيدة حول أغوار
الطبيعة البشرية، وعالمية حقوق الإنسان، ومزايا الهوية الوطنية الموحدة، وعبثية
مزج اللاهوت بالدولة، والجدوى من أديانٍ تدّعي السلام وتقترف الآثام باسم الله،.
هذه الصدمة
ستجعلنا- ربما بكيفيات متنوعة- نشهدُ طرحَ السؤال القديم الجديد: أيُّ الشرعيات
أكثر رأفة بالبشر؟ شرعياتٌ تتلفع بـ"أسرار" السماء، وحكمتها الغامضة،
ونصوصها القابلة للتأويل دوماً بكل الاتجاهات حد سفك الدماء؟ أم شرعياتٌ بشرية
بسيطة تختزل نظام الحياة إلى بضع بديهيات يحكمها الضمير المدني والتجارب الحياتية
المؤكدة دون تأويلات عويصة؟
هذه التطور
العقلاني النوعي- حتى إنْ جاء بطيئاً أو محدوداً-
سيكون إيذاناً بأن العقل الشرق أوسطي يوشك أن يباشر من جديد حداثويته التي
أطلت برأسها قبل قرن من الزمن ثم تراجعت سريعاً بتأثير الاستبداد المحلي المرتبط
حينها مصيرياً ببورصات الخارج ومضارباته الكوزموبولتية. أما في عالم اليوم،
فبالرغم من استمرار هيمنة رأس المال المعولم إلا أن الشفافية المعلوماتية وعولمة
مفاهيم الديمقراطية وحقوق الإنسان لن تتيحا لهذا التراجع عن الحداثة أن يحدث إذا
ما بدأت إرهاصاتُ التنوير حقاً.
ليس غريباً من
الناحية الإكلينيكية أن يتراجع الاعتلال النفسي كلياً حالما ينظر الفرد المعتل إلى
ماضيه على أنه خبرة محايدة تستحق النقد لا إرثاً حتمياً يستدعي التقديس! وليس
مستبعداً من الناحية التطورية أن يعود الكاهن إلى معبده ويغلق الباب وراءه تاركاً
العمل السياسي بأيدي أناسٍ حليقي الذقون يؤمنون بنسبية الصواب والخطأ دونما اقتتال
أو تكفير أو امتلاك أناني للحقيقة؟!
............................................................................................
هوامش:
(1) مع بدء الضربات الجوية الأمريكية ضد داعش مطلع
آب الماضي، بدأت أسهم شركات البورصة الرئيسة التابعة للبنتاغون في
الارتفاع، إذ ارتفعت أسعار أسهم شركة "لوكهيد مارتن" بنسبة (30,
9) %، فيما ارتفعت أسهم شركة "رايثيون ونورثروب غرامان" إلى (80, 3%)، وأسهم
"جنرال دايناميك" إلى (30, 4%). وبعد أيام قليلة على
توسيع الضربات ضدّ داعش، فازت شركة "رايثيون" بعقد قيمته (251 (مليون
دولار لتسليم البحرية صواريخ كروز من طراز توماهوك. أما عن كلفة الحرب، فصرح
المتحدث باسم البنتاغون إن "القتال يكلفنا يومياً نحو (60, 7) مليون دولار
تقريباً"، إذ أن كلفة استخدام الطائرة الجديدة "أف 22 رابتور"
مثلاً تبلغ (67) ألف دولار في الساعة الواحدة.
(2) اعتقلت القوات الأمريكية أبو بكر البغدادي (الخليفة
الحالي لداعش) في 4/ 1/ 2004م لنحو ثلاثة أعوام بحسب تصريحات لوكيل وزارة
الداخلية العراقي. أما أبو عمر البغدادي الذي بويع كـأول زعيم لتنظيم دولة العراق
الإسلامية 2006م، فسبق أن اعتقلته القوات
الأمريكية وصادرت حاسوبه الشخصي ثم أطلقت سراحه بعد عشرين يوماً.
(3)
يُعد كتاب "إدارة التوحش" لمؤلف وهمي هو "أبي بكر الناجي"،
مثالاً مهماً لهذه الكتب المؤدلِجة لشرعية الانتقال من حكم الأنظمة "الكافرة"
إلى حكم الخلافة الإسلامية، وهو مرجع مهم لمن يريد أن يفهم عقلية داعش. للمزيد
يُراجع:
-
أبي بكر الناجي (ب. ت). إدارة
التوحش: أخطر مرحلة ستمر بها الأمة. مركز الدراسات والبحوث الإسلامية.
(4) مثالاً لهذه النصوص الدينية
الانتقائية ما جاء في نهاية التسجيل الفديوي الذي بثه داعش في 3/ 2/ 2015م ويظهر
فيه حرق الطيار الأردني الأسير "معاذ الكساسبة"، إذ يختتم
التسجيل بفتوى لإين تيمية نصها: "فأما إذا كان في التمثيل الشائع دعاء لهم
إلى الأيمان أو زجر لهم عن العدوان فأنه هنا من إقامة الحدود والجهاد
المشروع".
(5)
جاء في نشيد يتداوله تنظيم داعش على نطاق واسع في مواده الإعلامية: "مشينا بسُمرٍ لجزٍ ونحرٍ، بسكينِ ثأرٍ سَمَتْ مَن حرى/ إليكم سنأتي بذبحٍ
وموتِ، بخوفٍ وصمتٍ نشقُّ العُرى/ إذا الكفرُ ماجَ وأرغى وهاج، ملئنا الفجاجَ دماً
أحمرا".
No comments:
Post a Comment